نحـن والوقـت..
خاص “المدارنت”..
… للوقت قيمة، ولكن ليس في بلادنا العربية، ولا في لبنان تحديداً. فنحن الشعوب الأكثر استنزافاً للوقت، والأكثر احتقاراً له. نمرّ عليه مرور الكرام، ونسحقه باستهتارنا وأحياناً بجمودنا الغبي أمام الاستحقاقات والحوادث، وحتى الأشياء. نتوقف لفترات طويلة، على وتيرة واحدة، نصارع التغيير، ونرفض التزحزح ولو قيد أنملة عن مكان اعتدنا أن نبقى فيه. نتوقف، ولا نريد أن نتحرك، والأنكى من ذلك، أننا نرفض أن تتحرك الأشياء من حولنا، كأننا نريدها أن تقدس توقفنا الأزلي في محاكاة الواقع.
قد يبدو كلامي فلسفياً من المستوى الأول، من دون الاغراق في التأويل والتفسير والخوض في ماهية السكون والحركة، وقد يحتاج الى مزيد من التفلسف والفزلكة لدى “هم”، كي يعرفوا عما أتحدث، وما هو الموضوع المهم الذي أطرحه، فـ”هم”، اعتادوا على السكون، وعلى تكرار ذات “الصورة” وذات الخطاب، ويرفضون الحديث عن “نبي” جديد في عالم التغيير. يقولون: وما الجدوى؟ ولماذا نريد نبياً جديداً؟ فـ”هم” ونبيهم الأوحد مستقرون في مكان واحد، ولا يرغبون بائتلاف مكان جديد، وكتاب جديد في مفهوم الحياة الكريمة، وفي مفهوم صناعة الانسان الحر، وفي مفهوم التنمية المستدامة للأجيال القادمة!
لا شيئ يدعو الى التحرك، ولا ضرورة للتجمهر، فـ”نبيهم” يتجوهر في كل مرة بصورته القديمة، ليبدو أكثر شباباً، وأكثر ثباتاً وقوةً على كرسي تقديسه، وأحياناً تأليهه! شباب دائم، ونظرة ثابتة للثوابت والفضائل، وتعويمٌ للمستحيل، وصناعة للانتصارت ترضي الجميع، ورفاهية مستمرة له ولأولاده وذريته جيلاً بعد جيل! فما من داع للانتفاض على نغمة الأزل، حيث لا جدوى من البحث عن صورة جديدة، ولو كانت هذه الصورة من “بينهم” “هم”. اكتفوا بذلك، وصوبوا على كل اهتزاز، واتهموا كل رمشة عين بالنفاق والكفر والتجديف والكذب والارتهان والخيانة والنذالة..! وهاجموا كل آبق، وكسروا شعاع الشمس، والتحفوا بالمظلات من انعكاس القمر… إذ يكفيهم اطلالةٌ من “هو” الكبير، القابع فوق رؤوسهم المطأطئة، والناظر اليهم نظرة امتنان.
حتى نحن “المعارضون”، المؤمنون قديماً بقيمة الوقت، والممسّكون بساعات الرمل بكل صبر، ابتلعنا ذلك الثقب الأسود اللئيم، وأحرق كل ما تبقى من الكتب السماوية في رؤوسنا، وأدخلنا في نسق “هم” من دون حولٍ لنا ولا قوة، فبتنا نردد أحاديث “هو” ونرتل تراتيل الجمود، ونعزف على سنمفونية البلادة، والتسطيح، والنظرة الساقطة تحت أنوفنا.
فقدنا الاحساس بالوقت، ونحن على هذه الحالة منذ قرن من الزمن، وبات عداد الموت الذي يحصد أرواحنا في أبشع الأماكن على وجه البسيطة، مجرد رقم يليه رقم، ونحن نستمع الى تبريرات “هو” ووعوده الخالدة، بكل الطيبات في دنياه “هو”، ونلحن معه أغاني الصحة والسعادة والرفاهية والنجاح، وحتى الانتصار على طواحين الهواء، ليرتسم بين عيوننا سديم الخدر والهلوسة، والاقتناع الحاسم بكل ما قيل، ولتتوقف لدينا الحواس الخمسة، كي لا ترى ما يُرى، وكي لا تشتم روائح النتانة التي نقبع فوقها كمواطنين صالحين، وكي لا نسمع سوى صوت واحد، ونشيد واحد، نشيد الانتشاء على الرغم من أننا في قعر الانهيار، وكي لا نلمس سوى شوك الصمود، ونحن في قعر الهاوية، وكي لا نتذوق سوى طعم الانكسار المنكّه بفاكهة كاذبة، قتلت فينا كل انتماء الى الجنّة الحقيقية، وأسكنتنا من دون أن ندري جحيم مبطن بالنعومة، والبراءة، والحماسة للقضية المحورية، والتعصب لـ”هو”، العارف الوحيد بشؤون الوطن.
نحن لم نعد “نحن”، وتركنا الوقت الخاطف كضوء الشمس، نذبل معهم، ساجدين على أرجل القداسة الكاذبة، مصدقين كل الدجل المحيط، وانكسرت بين أيدينا ساعات الرمل، واندثرت تذروها الرياح! تركنا الوقت من دون ندم، فنحن أساساً تركناه طوعاً، وأفلتنا خيوطه الرفيعة الأخيرة، بحثاً عن تبرير جديد، وايمان جديد، وممالأة جديدة، ومساومة جديدة، وتماهٍ جديد. تركناه ظناً منا أننا الأكثر ايماناً والأكثر فهماً لما حدث ويحدث، ونحن العرافون الخبراء بشؤون الغيب القادم من بعيد. تركنا الوقت، وارتحل هو نحو الغرب ربما، من دون أن يلتفت الينا، فقد يئس من يقظة ما قد تحركنا، وآمن بأن الشلل الذي ارتابنا داء عضال، لا دواء له سوى الله.