“نظام الأسد” تحت الطلب!
“المدارنت”..
ما هو غنيٌّ عن القول إنّ الصورة الذهنية عن الاستبداد في سوريا، تنحصر في نظامٍ قائم على المطاوعة بدلاً من الشرعية، تبنّى سياسة الإخضاع العام المنظّم وسط بيئةٍ تعبويةٍ تحريضية، تنمو في ظلالها تحوّلاتٌ جذريةٌ عنفية، هي بالمجمل مخرجات تراكمية لفظائع مملكة الصمت.
تبدو هذه الفكرة مفتاحيةً لفهم قدرة نظام الأسد على الصمود، فسياساته البراغماتية، التي تمثل نقطة انطلاقٍ يتكثّف حولها المعنيان، الأخلاقي والسياسي، تفترض ديمومةً خالدة له أو انتقاله الحتمي إلى مرحلة الفوضى والعبث. ولذا من المهم أن يقترن أيّ فهمٍ لمحدّدات استمراريته بتحليلٍ منفصل عن أيّ تحيّزاتٍ مسبقة. وبحسبةٍ تأملية للحوادث التاريخية في بلادٍ شهدت أهوالاً جسيمة كسوريا، تذهب وقائع كثيرة إلى أنّ التاريخ قاضٍ عادل بالمطلق، ولا توجد مصائر غير مستحقة، غالباً ما تكون مأساوية وفرجوية، وجديدُها فرار رئيسة وزراء بنغلاديش، الشيخة حسينة التي حكمت البلاد بالنار والحديد إلى الهند، بعدما اقتحم آلاف المتظاهرين مقرّها الرسمي في داكا، بينما لا يزال نظام الأسد يتربّع على عرش السلطة في دمشق!.
ثمّة من يتفاءل بالقول إنّ الأخير كان لا شرعيّاً منذ البداية، وسينتهي بالضرورة إلى سقوطه المؤكد لدى نضج الظروف الموضوعية لذلك، وإنّ الانتقال إلى المرحلة التنفيذية يتطلب إبقاء بشّار الأسد في الحكم بغية إغراقه في دائرةٍ من التسويات الإلزامية التي تقلّص دوره ووزنَه، وتحوّله إلى مترجم تنفيذي لنصوص القوى المؤثرة على الأرض السورية.
أما اللغة الاستعلائية المتشحة بضحكاته الصفراء فدوافعها، غالباً، قناعته الواهمة بأنّ قوة نظامه هي التي حافظت على وجوده واستمراره، ويغيب عنه أنّ معادلة القوى الكبرى هي مَن منعت رحيله، ومرجّحٌ أن تتغيّر في أيّ وقت.
وعليه، لا يمكن التعويل طويلاً على تبدّل موقف الدول الغربية من التشديد على ضرورة إسقاط الأسد إلى التوصل إلى تسويةٍ سياسية من بوابة اللجنة الدستورية التي لم تنجز مادة فاعلة حتى اللحظة. من ثم، يكشف استعصاء الحلّ السوري عن حجم هذا التعقيد، كونه وصفة خاطئة جاءت نتيجة تشخيص خاطئ أيضاً، سيّما إذا نُظر بعمقٍ إلى حجم التعبئة الدولية التي حوّلت سوريا إلى مسرحٍ استعراضي لمشهدياتٍ مريرةٍ من مواجهات زمن الحرب الباردة، وكأن مآلات الأزمة السورية ستحدّد شكل المنطقة برمتها، خاصة أنّ طبائع الأسد لا تمكنه أن يكون شخصية مغامرة تتخذ قراراً تاريخياً في قلب معادلة الصراع ثم، وكفارس نبيلٍ، يتحمل كلّ تبعاته.
من هنا لا يُحتسب للأسد البقاء على رأس السلطة انتصاراً شخصياً له بقدر ما هو انتصار لحلفائه وأعدائه، على حد سواء، في عالم أصبح شديد التداخل في المصالح والمصائر، ومن المستحيل ألا تثير ثورة أيّ شعب شهية الدول الإقليمية الكبرى لاستغلالها، فكيف بسورية وهي قلب المنطقة النابض!.
وبصورةٍ كاريكاتورية جزئياً، أكّد مراقبون كثر أنّ معطيات الواقع السوري والإقليمي لن تسمح له بالتغيير على المدى المنظور، لذا يبدو أمر كتابة نهاية قريبة للتراجيديا السورية صعباً، وربما مستحيلاً، لأنّ من يمتلك زمام الحكاية أطراف عدّة، لكلّ منهم مصالحه وغاياته، وجميعهم سعداء باستمرار الدوران في حلقةٍ مفرغة، تجعل السوريين يزدادون موتاً ويأساً، ليبدوا وكأنهم يعيشون في الرواية الخيالية “نحن” للروسي يفغيني زامياتين أو داخل ديستوبيا “1984” لجورج أورويل، حيث الفرد لا قيمة له ولا معنى إلا بصفته رقماً مجرّداً في عالم الحاكم المستبد. يواجهون اللغز المحيّر ذاته وسط تغيّر شكل العالم وسقوط رؤساء بالجملة:
“كيف لم تُطوَ صفحة السقوط بعدُ لنظامٍ ساقط أصلاً، أخلاقياً وسياسياً وإنسانياً؟!”. بطبيعة الحال، يُستنتج من المعطيات المستقاة من قاعدة بيانات هزائم نظام الأسد وغنائمه، أيضاً عدم الاستقرار في الخريطة العسكرية لقوى الأمر الواقع، أنّ من يحمي هذا النظام ليس الإيرانيين ولا الروس فقط، إنما أميركا ومن خلفها “إسرائيل”.
والدليل أنه ومذ تسلّم جو بايدن سدّة الرئاسة كان واضحاً أنّ الملف السوري لم يكن على قائمة القضايا التي اهتمت بها إدارته، حيث تمَّ اختراقٌ واضح للعقوبات الأميركية المفروضة على الأسد الابن من دون أيّ رد جدّي تجاهها. على التوازي تنظر “إسرائيل” إلى بقاء الأخير على أنه عامل مهم لاستمرار حربٍ توفر بيئة استراتيجية مناسبة يستنفد فيها الأعداء طاقاتهم، لتترك سورية دولة فاشلة ومقسّمة، لا تمثل خطراً أو قلقاً، إذ سبق أنْ أوضح الرئيس السابق للموساد، إفرايم هليفي، أنّ بلاده لا تعتبر البحث عن بديلٍ لبشار الأسد من بين أولوياتها، وإن كانت تظن أنه سيسقط في نهاية المطاف.
بالتساوق مع ما تقدّم، يمكن فهم عدم إدانة الحكومة السورية العدوان الإسرائيلي على غزّة، وبقاء جبهة الجولان هادئة نسبياً، كذلك سبب غضّ النظر عن ضرب إسرائيل أهدافاً إيرانية في سورية، والتي أسفرت عن مقتل قياديين بارزين في الحرس الثوري الإيراني.
وما لا يمكن استبعاده في السياق تغيّر المزاج العربي والأوروبي تجاه نظام الأسد الذي تلاعب بورقة “الكبتاغون” على سبيل الابتزاز فأثار حفيظة العالم، كذلك يبقى البعدُ السياسي للنزوح السوري إلى أوروبا الخطرَ الأكبر، والذي أسهم بتقوية نفوذ الأحزاب اليمينية المتطرّفة بحجّة أنّ اللاجئين سببُ الأزمة الاقتصادية ولا بدّ من ترحيلهم، ما أجبر إيطاليا، أخيراً، وربما تنضم دولٌ أخرى لاحقاً، على تعيين سفيرٍ لها في سوريا.
هو خيار انتحاري، لكنه يبقى جزءاً من المساومة، بينما لا تعارض الولايات المتحدة أيّ تواصل مع النظام، بل أكثر، فما استجدّ، أخيراً، يُعتبر، في معياريته المخاتلة والزائفة، حرباً صريحة على الشعب السوري، وهو رفض الإدارة الأميركية مشروع قانون مناهضة التطبيع مع النظام السوري، والذي أثار جدلاً واسعاً بشأن ما إذا كانت توافق ضمنياً على إعادة تعويم الأسد، ويدخلنا هذا البعد إلى سؤال اليوم الملحّ: هل ثمّة رغبة أميركية مُضمرة في تركِ الباب موارباً أمام إعادة العلاقات مع دمشق؟، وهل التلعثم الأميركي تجاه حسم مصير الأسد يندرج في سياق التوجه إلى الإبقاء على حالة الجمود السياسي الراهن في الملف السوري إلى ما شاءت المصالح المبيّتة؟.
المفارقة في الأمر، والمثير للسخرية المرّة، في الوقت نفسه، أنّ الإدارات الأميركية المتعاقبة في تعاطيها مع الكارثة السورية بمنطق إدارة الأزمة لا حلّها، لا تزال تحتاج إلى نظام الأسد، بصرف النظر عمّن يقوده، فسياسات الدول لا تقيم وزناً إلا للمصالح الاستراتيجية، وليس للعويل الإنساني أو النواح السياسي، إذ ثمّة سردية غير معلنة في الأروقة المغلقة أنّ هذا النظام وصل إلى نقطة اللاعودة، وأنّ الجزّار السوري غدا رهينةً خائفة في جمهورية الرعب التي أسّسها والده.
لو فكّرَ في ترك البلد سيقتلونه أو يمنعونه في أقل تقدير، خشية من فراغٍ عدمي يُحدثه سقوطه المفاجئ، فيترك البلاد في وضعٍ غامضٍ يصعب التنبؤ به. نافل القول.. في غمرة الانشغال بالمآل السوري وبإحصائية تتجاوز المعنى الأكثر إيلاماً لها، سيُستبقى بشار الأسد رئيساً خاضعاً في كانتون هامشي، أو مديراً مؤقتاً لدويلة وظيفية تحت الطلب، بانتظار بدء مسار انتقالي نحو واقع جديد، غالباً لن يكون الأسد جزءاً منه، وهو مسارٌ قد يطول انتظاره حتّى حسم توازنات القوى الإقليمية والدولية.