نــحــيـــــب الــلــيْــلــــــك..!
خاص “المدارنت”..
تحت نافذة غرفتها في الحوش الكبير؛ تتأمّلُ “حكيمة” زهرة الليلك… يُخيّلُ إليها أنّ شيئاً ما قد خدش جمال هذه الزهرة… تبدو ذابلة، منكمشة، حبَسَتْ عِطرَها… توّجتْها غمامة حزن، تسلّلتْ بين تجاويفها؛ فإذا بالعُنق الدَّقيق القصِير يلْتوي؛ ليميلَ على حوَافِّ الإناء الكبير.. تساءلت “حكيمة” بدهْشة المَذهول: ماذا جرى…؟!
اقتربتْ الفتاة تحاول تعْديل العُنق الدّقيق… يتملّص العُنق من بيْن أناملها الرّقيقة، تنْتقل أناملها إلى أعْناق أخرى مائلة، غير أنَّها تفلُتُ منها كلها؛ وكأنّها تُقاوِم… وكأنَّها تحْتجّ… وكأنّها تحْمي نفسها بِالِانْفِلاتِ من أيْدِي البَشر… وبيْنما تسيرُ نحْوَ أصيصٍ آخر؛ تتفقد أزهاره، تتجمّد “حكيمة” في مكانها وهي تسمع نحيب الليْلك على وَقْعِ نايٍ بعيد… ناي؛ ربما يكون قدْ صُنِع في زمَنٍ ما؛ من خشبِ الشَّجرَةِ الأمّ… تتعالى ألحان الناي الحزين… يرتجّ المكان… تلتفت “حكيمة” يميناً وشمالاً… يختلط خوفها بحيْرَة تخْميناتِها… “هلْ أصْبحَ المكانُ مسْكوناً؟” تسْرَحُ بِعَيْنيْها الجَميلتيْن في الأرْجَاء… تعُودُ لتُنْصِتَ لهَذا النّايِ العَجيب وهي تتحسَّسُ الجبينَ المُتلألئ بقطراتِ العَرَق… تتحرّك قدماها ببطء شديد نحو بقية الأزهار… يُذْهلها المنظر… كلها اتشحتْ بالسواد… كلها التفّتْ في طقس مهيب؛ حول زهرة – كانتْ فيما مضى بنفْسَجِية اللوْن – تُلاحِظ “حكيمة” تسَارُعَ نزِيف الزّهْرة على الجَنَبَات… تتجمّدُ القدمان داخل الشبشب التقليدي المزركش… تشعر الفتاة بدوار؛ ينتهي بسقوطها على الأرض… تسمع أختها الضجة في الحوش، تُهرْوِل…تتفاجأ بحالِ أختها، تجري نحو الحنفية، تمْلأ إناءَ ماء، ترشُّ وجْه الفتاة المُمَدّدة على الأرْض، تُنادي أّمّها، يَلتفُّ الجميع حوْل “حكيمة” التي بدأتْ تصحو مِنْ إغْماءَتِها المُفاجِئة…. تطلبُ كأس ماء وهي تحاوِلُ القيام؛َ فالجُلوسَ مُتّكِئة على كتِفِ والدتِها…. ينْعَقدُ لِسانُ الجَميع عِنْدَما تبْدأ الفتاةُ بالحَكْي بعد سَهْوٍ طوِيل….
يرجع اهتمامُ “حكيمة” بأزْهار الليْلك إلى زَمَن بعيد… يوم أهداها تلاميذها مع نهاية الموسم الدراسي؛ باقة أزهار زاهية الألوان…. وبين الزهرة والزهرة ثبّتوا قُصاصاتٍ ورَقية؛ دَوّنُوا عليها مشاعِرَهُم النّبِيلة، ومنْهُم منِ اكتفى بِاسْتعارة أبْياتٍ شِعْرية، دوّنَها بِخَطٍّ رفيع، وأهْداها بكلّ براءة؛ إلى مَنْ علّمتْهُمْ تذوُّقَ الجَميل…
تعهّدتْ “حكيمة” أزْهارَها بحُبٍّ وعِناية… بدأتْ تقرأ خصائص هذا النّوع وتبْحَثُ وَتُقارِنُ وتجْمعُ المعْلوماتِ؛ اسْتعداداً لتخْصِيص مِساحةٍ منَ الحوش لروْضة غنّاء؛ فكان أنْ رسمتْ مُربّعاً جانبياً، مَلأتْهُ بالأصائص المُختلفة الأحْجام، وخصّصتْ كلَّ أصيصٍ لِلوْنٍ مُعيّنٍ من الأزهار… فتراوحتِ الألوانُ بيْن الأبْيض والبنفسَجي والأرجواني، واختارتْ لوْن الفوشيا؛ لتضعه تحْت نافذة غرفتها المُطلّة على مجموع الحوش…. وَجدَتِ الفتاةُ في هذا المُرَبّع سبيلاً إلى الرّاحَة النّفسية؛ فعكفتْ على رِعَايته وصِيانة جَماله…كانتْ صارمة مع أطفال البيت، توصيهم بعدم الاقترَاب مِن الأزْهار وإلّا سينالون العِقاب… تتذكّر أنّ أحدَهُم تمرّدَ يوْماً؛ فاقتلع عدداً منْها ورَمَاها على الأرْض، وبعْد أنْ وَبّختْهُ “حكيمة” توبيخاً شديداً؛ تحَجّج بأنّهُ كان يبحث عن قطته الصّغيرة المُخْتفية… تظاهرتِ الفتاة بتصْديقه وأوْهَمَتْهُ بأنّها ستُسلّم القطة إلى حديقة الحيوانات؛ إذا ما كرّرَ فِعْلته…
نَدَى الرُّموش…
دمْعٌ يُغافِلُ الرُّموش الطويلة…يسيلُ فوْق خدٍّ أشفق على اللؤلؤ الهارب؛ فتركه ينْسابُ بِهُدوء ثمَّ يتقاطرُ بِسَكينة؛ على صدْرٍ روّعتْه الحُرْقة. صدْمَة المشهد؛ رسّختْ غُصّة في النفس؛ من المُحالِ مَحْوها… : الزهرة البنفسجية تضربُ نفْسها بأوراقها… يئنُّ العُنُق الصّغير، تتلاحق الضربات… تُصبح وكأنها جَلْدٌ بالسِّياط…تتناثرُ الأوراقُ الضعيفة…. يتصاعد الأنين فيتحوّل إلى صراخ…تتدحْرَجُ الأصائص وكأنّ ريحاً تدفعها… تتشقّق.. تقفز الأزْهارُ واحدة بعد الأخرى، تتحلّقُ حوْل الزّهْرة البنفْسَجِية، تتلاصق الأوْراق بألوَانِها المُخْتلِفة حتّى تُصبح إكليلاً يُطوِّقُ أصيص الزَّهْرة البنفْسَجِية… تتقيّأُ الزّهْرة مَرَارَتَها… وبصَوْتٍ مبْحوح؛ نهشتْه الغُصّة، تناثرتِ الكلمات مصحوبة بالآهات…
حُمّى الطبيعة… على لسان الزهرة….
بشرٌ هذا أمْ حَجر….! يدقُّ المسْمار في عُنق الفرح.. يسْرِق ِمنَ الطبيعة أُنْسَ الوَهج…! بشرٌ هذا أمْ حَجَر….! يسْتقوي على الطيْر والشجَر… والتُّرْبِ والزهر… ينْتشي بمجْزرَة العُشْبِ، يْملأُ ِجرار النّشْوة بدْمع الياسمين وعويل الأقحُوان، ونُواح ورَق الزَّيتون… يمْلأ الجِرارَ بالهشيم والحطام وصُراخ الأغْصان الغارِقة في اللهَب…!
بشرٌ هذا أمْ حجر..! أبَاد أهْلي في الغاب… لوّثَ عِطري وعِطرَ الأتْرَاب… أحْرَق غطائي، انْتهَك سِتْري وَفكَّ أزْرَارِي… قصَّ أجْنِحَة عصَافيري، خنَق فرَاشاتي، اسْتباحَ شهْدَ نحْلي، سوّدَ سمائي، فتعالى الدُّخانُ وكأنّه القطِرَان يُلاحِقُ أنْوَارِي…
بَشرٌ هذا أمْ حَجَر…! يتفنّن في الخِذلان، يقطع طريق الأحلام، يطمس سحري وقد أهديْتُه عَبيرِي وأسعدْتُهُ بِظلّي وهوَائي… بقمري وشمسي… وأنْعَشْتُهُ بِتراتيلِ النّسَمات العابِرَات للجبال، للسّهول، للرّوَابي الزّاهِرات…
أيها البشر…! كمْ شنّفتُ مسامِعَكمْ بِشدْوِ شلّالاتي… كمِ افْترَشْتُمْ بِساط خُضْرتي… كمْ دوّنْتُمْ أحلامَكمْ على وِسادةِ جداولي وأنْهاري… كم سقيْتُ أمانيكم بمِداد غيْثي… كمْ أضأتُ لياليكم بلمَعانِ نجْمي… فألهمتُ خيالاتكم بعقيق سحري وفِتْنة وَحْيِـــي… غدوْتُ قِبْلةَ المُبْدِعِ مِنْكمْ… وملاذ التّائِهِ منْكمْ…هامَ بيَ العارِفون وشارَكوني أسْرارَهُمْ في خلوَاتِهم… قَهرْتُ عقولَ فلاسِفتِكمْ، وأصْحاب الرّأي مِنْكمْ… عجِبْتُ منْ أمْرِكم أيُّها البشر.. ركضْتُ نحْوكمْ؛ أضمِّدُ جراحاتكمْ، ركضْتُ نحوكمْ؛ أوَزّعُ قصائد الأمل والحُبّ والسّلام؛ زرْكشْتُها على أجْنحة الحَمام… عاد إليّ الحمام وقصاصة ملفوفة بشريط رقيق على قدمه…
وراح يركض نحو الناس في ثقة *** فصَادهُ الكفُّ رنّاناً على عجل!
انتفضتْ “حكيمة” وهي ترمي الغطاء جانباً…. نظرتْ إلى المُنبِّه… أيْقنتْ أنّ الصّباحَ لمْ يحُل بعْدُ؛ وأنّ المُنبّه لمْ يدُقْ بعْد… فهمتْ أنّ الكابوس الذي رأتْهُ سيمنع نوْمَها ِمنْ جديد… ذهبتْ لتغْسل وَجْهها وأطرَافها وتتلصَّص على الأصائص… وَجَدَتْها في مكانِها حالمة، سالمة، فوّاحة، تغمُر الحوش بجمالها؛ والنّايُ مِن حوْلها يهْتزّ طرَباً لِنَجَاتِها….!! عادتْ إلى السرير وقد أخذتْ كُنّاشها المليء بما رَقّ وعذب مِنَ المُخْتارات… قرأتْ وقرأتْ حتى سمعتْ أذان الفجر…. استجابتْ لنداء الفلاح…. شعرتْ بِالِانْشراح… تحمّستْ للمزيد من القراءة… وقعتْ عيناها على أبياتٍ، قرأتْها والنعاس يُغالبُها:
أقولُ لِجارَتي والدّمعُ جاري *** وَلي عزْمُ الرّحيلِ عنِ الدّيار
ذَرِيني أنْ أسيرَ ولا تنوحي *** فإنّ الشُّهْبَ أشرَفُها السّواري
======================