نقد كتاب علي عبد الرازق: “الاسلام وأصول الحكم“!
“المدارنت”..
يتجدد الحديث حول علاقة الإسلام بالحكم، وحول مدنية الدولة، وقد رأيت من المناسب إعادة نشر كتابي: “نقد كتاب علي عبد الرازق.. الإسلام وأصول الحكم”، وسوف أعمد لنشره بطريقتين: الأولى، نشره كاملا كملف لمن يريد قراءته مرة واحدة، والثانية، نشره على حلقات وحذف بعض الفقرات منه, آملا من ذلك الإسهام في إلقاء الضوء على ذلك الموضوع الهام للحاضر والمستقبل.. (كامل ملف الكتاب على حسابي على مسنجر الفيسبوك”.
الحلقة الأولى/ مقدمة الكتاب
ولدت فكرة هذا الكتاب ليس لأجل تصحيح ما جاء في كتاب الشيخ علي عبد الرازق من وجهة نظري فقط, ولكن أيضا من أجل استكمال ما بدأ به، ولم يكمله, وأنا أعلم أن تلك مسيرة طويلة, لكن السير خطوة أخرى فيها نحو الأمام، أمر يبرر كل جهد يبذل في هذا الاتجاه, وقد مرت مياه كثيرة بعد نشر كتاب الشيخ علي عبد الرازق, ومنذ أن جرت محاكمة الكتاب والكاتب ضمن هيئة علماء الأزهر, وما خرج عن تلك المحاكمة المؤسفة من ادانة الكاتب ومنع الكتاب, وما أحدث ذلك من ردود فعل صاخبة, كانت في محصلتها تقود الى تكريس التيار المحافظ في الفكر الإسلامي, وتضع سدا أمام الاستمرار في حركة التجديد التي كان قد بدأها الشيخ محمد عبده، الذي تتلمذ على يده لاحقا الشيخ علي عبد الـرازق من دون أن يجتمع به.
سوف نشاهد أن تلك الحركة قد توقفت بالفعل بعد ذلك التاريخ, ثم جاءت مرحلة حلول الفكر القومي – الاشتراكي مكان الفكر الاسلامي, وساد الاعتقاد بأن التاريخ لم يعد يطرح تجديد الفكر الاسلامي كضرورة راهنة, لكن ما حصل بعد ذلك أن الفكر القومي/ الاشتراكي انحسر مده, وفي الفراغ الفكري الذي أحدثه ذلك الانحسار, نهضت نسخة من الفكر الاسلامي أشد محافظة وجمودا مما عرفته المنطقة العربية منذ منتصف القرن التاسع عشر، حين بدأ محمد علي باشا، ببناء دولة حديثة احتاجت للانفتاح على أوروبا، وبالتالي، بدأت مع ذلك الانفتاح معالم نهضة فكرية جديدة.
وقد تعرضت المنطقة العربية لهزات سياسية واجتماعية عميقة, وخلال تلك الهزات، أظهرت التجربة التاريخية نتائج سيادة الفكر الاسلامي المتشدد, لكن الأزمة اليوم تتمثل في عدم تبلور بديل له حتى الآن, فالشعوب العربية ما تزال تقف في وسط الطريق, فلا هي مقتنعة بالفكر الاسلامي المتشدد الذي ساد الفترة السابقة، وفشل في انتاج الحلول الاجتماعية والسياسية, ولا هي مستعدة لنبذه وراءها بصورة تامة من دون بديل واضح المعالم.
وتلك الأزمة بالتحديد، هي ما يبرر العودة نحو تجديد الفكر الاسلامي, وضمن مرحلة المخاض هذه, ترتفع دعوات مختلفة, بعضها يريد التخلص نهائيا من الارتباط بالاسلام، لكنه لا يطرح أي بديل, وهو حين يفعل ذلك انما يطرح بصورة غير مباشرة الالتحاق التام بالغرب, في حين أن الوهج الحضاري – الفكري للغرب في مرحلة أفول، وليس في مرحلة سطوع, فالغرب ذاته يعترف أنه يعيش أزمته الفكرية/ الأخلاقية.
وهكذا تظهر دعوات الفريق السابق بكونها مجرد انسلاخ عن الهوية والتاريخ أي كفعل سلبي يصلح للهدم ولايصلح للبناء.
ويبدو أنه لامناص من العودة لتجديد الفكر الاسلامي, وتوسيعه لاحتواء أفضل ما قدمه الفكر الانساني, أو التعايش معه على الأقل, وبمقدار وعي تلك الحقيقة, سنتمكن من اختصار كثير من الوقت والجهد للخروج الى بر الأمان.
وقد حرصت في هذا البحث على متابعة كتاب الشيخ علي عبد الرازق حسب تسلسل فقراته, بحيث يسهل على القارىء الربط بين نقد أفكاره الذي أوردته والعودة لأصل ومكان تلك الفكرة في كتاب الشيخ علي, كما حاولت استكمال بعض الموضوعات التي انفتحت ولم يتعرض لها الشيخ علي, أو مرّ عليها ولم يعطها ما تستحقه من اهتمام, وأهم تلك الموضوعات “نظرية العقد الاجتماعي في الاسلام”، باعتبارها مبدأ الاسلام في نظرته للحكم, وفيها يتعارض الاسلام مع “نظرية الحق الالهي في الحكم”، وكذلك مع كل أشكال الحكم المطلق.
ولست أدري كيف غفل الشيخ علي عن تلك المسألة, وبدلا منها حاول اسقاط التاريخ الأوروبي على التاريخ العربي الاسلامي فقرن بين الاسلام ونظرية الحق الالهي, وقلل الى أقصى حدّ من قيمة نظرية العقد الاجتماعي في الاسلام، والتجربة التاريخية للخلافة الراشدة، وخلافة (أمير المؤمنين) عمر بن عبد العزيز, وكأن ذلك كان محض استثناء لا وزن له, وأن ما شهده التاريخ بعد ذلك من ممارسة للخلافة، بوصفها حقا الهيًا مقدسًا، هو ما ينبغي نقده والتخلص منه عن طريق الرجوع للنصّ القرآني، الذي لم يصف الرسول بصفة الحاكم المسيطر، بل فقط بصفته كمبشّر ونذير, وفي ذلك جانب من الصحة.
لكن الجانب الآخر الذي أخطأ فيه الشيخ علي، أن الرسول (ص) كان حاكمًا سياسيًا في المدينة، بحكم اقتران الدعوة الدينية مع بزوغ الدولة العربية/ الاسلامية, بالتالي, فهو كان حاكمًا بحكم الضرورة التاريخية وليس بحكم ضرورة الدعوة الدينية, وقد جاء لقب خليفة رسول الله، بصورة رئيسية من الصفة السياسية للخليفة أبي بكر الصديق، وليس من الصفـة الدينيـة.
أما الفقرات الأخيرة فقد خصّصتها لمناقشة علاقة الاسلام بالديموقراطية, ودولة المواطنة, وتلك موضوعات مستجدة لم تكن مطروحة بالحاح في زمن الشيخ علي، كما هو الحال اليوم, وأخيرًا، فقد وجدت من المفيد القاء نظرة على حال القضاء في الاسلام في مطلع الدولة العثمانية، ربما تسهم تلك النظرة في تقييم أكثر انصافًا للقضاء في الاسلام، وهو أحد أركان الحكم, وقد تميز عبر التاريخ الطويل بالفعالية، وكان سببًا في تخفيف وطأة الحكم المطلق، وإضفاء شيئًا من العدالة على الدول المتعاقبة عبر مئات السنين, مع ملاحظة أن القضاء لم يكن دائمًا في أفضل حالاته، فقد كان يتدهور مع تدهور الدولة، كما حدث في نهاية عصر المماليك, وقرب نهاية الدولة العثمانية, فالقضاء لا يمكن أن يكون مستقلًا بالكليّة عن حال الدولة.