نهج عملي لصحوة أبدية.. الجزء “4”.. بين الأزمة والتخطيط
خاص “المدارنت”..
منذ اللحظات الأولى لنزول الوحي على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ولدت المؤسسة التعليمية التربوية في الاسلام، فكانت دار الأرقم، ثم تطورت إلى: الكتٌاب والمسجد والمكتبة وبيوت الحكمة ودور العلم… هكذا ومع بذوغ نور الاسلام انتشر العلم والتعلٌم والتدارس، حيث تمتٌع بمكانة مرموقة، وعلى أهمية بالغة في نمو وتطوير الفكر العربي الاسلامي، فكان فريضة عين على كل مسلم ومسلمة، ولننظر في قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه”… الإسلام هو التسليم، والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار، والإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل الصالح.
أضاف: “أوضع العلم ما وقف على اللسان، وارفعه ما ظهر في الجوارح”. هذا يعني أن العمل الصالح هو ثمرة الإيمان، ومن جهة ثانية، أن تاريخ التربية الإسلامية قد ارتبط ارتباطا وثيقا بالمسجد ،الذي لعب دورا بارزا في حركة الوعي الفكري، التي بيٌنت الأصول والمبادئ التي يقوم عليها منهج التفكير السليم، جراء تحقق أسس الاستنباط والاستدلال، وتحقق ركائز التحليل والتركيب، مما دفع إلى تجسيد الأسس المنهجية للعلم والمعرفة في تثبيت الإيمان، ثم التوجه نحو بناء الإنسان الفرد الصالح، وأيضا تكوين المجتمع الفاضل.
لقد حضٌ الإسلام على التوفيق والتٌوافق بين الفرد وكيانه، بين الفرد وبين الحركة البيئيّة المتغيٌرة، وأعلى من شأن العمل التعاوني المشترك، وتحقيق الخير العام، انطلاقا من توالد عنصر المبادرة الذاتية، وانبعاث الارادة الطيٌبة، حيث يظهر الإسلام، بذلك، مبادئ وقيم الإنسان الفرد، التي تعمل على تحميله مسؤولية فردية ذاتية، وفي الوقت نفسه، مسؤولية اجتماعية ،من حيث أن المجتمع مكوٌن من أفراد اجتماعيين، إذ تجلٌت تلك القيمة الفردية، بما تميٌز بها الفرد من صفات الحكمة والمعرفة، التي تقوم على قوة مفاعيل العقل والعلم والاخلاق، وفي حال ضعفت تلك المفاعيل وانعدمت، يذهب الإنسان إلى فقدان انسانيٌته، ثم يتجه بانحطاطه إلى مستوى العجماوات.
اسف كل الاسف، لواقعنا العربي الإسلامي، الذي نحيا ونعيش، ونحن في بدايات الألفية الثالثة، فالبلاء اشدٌ واعظم، لقد تركنا خشبة الخلاص وتمسكنا باذناب من اغتصبها وزرع الحجب بيننا وبينها، محاولا تهشيمها”. فانطبق علينا قوله تعالى: إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ.. [الرعد:11].
لا شك أن القوة البشرية هي التي تمثٌل مصدر ثروة الأمم، إذ عليها يتوقف تحويل المصادر الطبيعية إلى ما هو خير ونافع، جرٌاء حسن استغلالها، وتدبيرها، ثم توجيهها إلى خير عام، وبنفس الوقت، تحمي الأمة عن اطماع الاخرين، وهذا الأمر يلزم تكوين وبناء طاقة بشرية واعية منتجة، خالية من بذور اللصوصية والتخريب، حيث تصنع النفوس النقية الصافية والتي تحددها مناهج تربوية وأنظمة تعليمية عالية الجودة والكفاءة، حيث تؤدي إلى تطبيق عدالة اجتماعية، وتساوي في الحقوق والواجبات، بعيدا عن أي تمايز اجتماعي، أو عرقي، أو اثني، اضف الى عدم الأخذ بالسياسة الطبقية الانتقاءية، لتبعيتها الخارجية، المغلفة منها والمخبأة – هذه الطبقة التي تستورد وتتلقى وتبث سمومها، في التشويه والتضليل والانحراف، معرفة وسلوكا، فتحوٌل الأجيال إلى أدوات مادية ميكانيكية، لا روح فيها، ربما تمنحه تقنية العمل الجيٌد، ولكن معدوم الارادة الذاتية، إذ ينفذ آليا دون تخطيط لعمل فكري ذاتي، مما يبقيه على سذاجة وسلبية، على نفسه وعلى من يحيط به وعلى ما يحققه من مكاسب ومصالح.
خلاصة القول، إن الرأسمالية العالمية تزودنا بازمتها التعليمية والتربوية، فتصقلها، اولا، بالايجابية، ثم تلمعها بالمنفعة، ثم ترميها علينا، بهدف المحافظة على تلك المسافة اللازمة، بين تابع ومتبوع، وإعلاء فروق التفوٌق، العلمي والحضاري، بيننا وبينهم، هنا وجب لفت النظر إلى معاناتنا وامراضنا، وبيان إلى هذه النقطة الأساسية المحورية، والتي منها وجب الانطلاق في مسيرة تسديد عمل الفكر الوجداني العربي الإسلامي، وتوجيهه وتحريره من خلال بناء وتكوين نظام تعليمي تربوي حر مستقل متجدد، مع ضرورة إلزام التطبيق العملي به، وتمكين الأجيال الصاعدة إلى التغيير النوعي والمثالي، على قاعدة الوعي الفردي والجماعي، وفق متطلبات التطور العلمي الإبداعي، ثم تحقيق السمو الأخلاقي نحو أفق العدل والمساواة، نحو أفق الحرية والاستقلال الانتاجي، والفكري، والمادٌي.
مما تقدم، يُظهر جودة التخطيط والتنفيذ في البناء والتكوين العام، ثم نتوجه إلى إلزام تطبيق جودة عناصر من توكل إليهم عملية التعليم والتوجيه والإرشاد والتقييم، مع ضرورة كفاءة التخصص والاختصاص. وتجدر الإشارة إلى عمر وسن الالتحاق والالتزام بتنفيذ المناهج الدراسية التعليمية التي من ضمنها الاهتمام الأساسي بكل ما يتعلق بالصحة، الاجتماعية، الجسدية منها والنفسية، على السواء، ويلزم ايضا، ومنذ نعومة أظافره، اعتماد النصوص القرآنية أصل من أصول وأركان العملية التربوية التعليمية، من أجل تحصيل الملكات التعليمية والتربوية، وتحصينها بعناصر تطويرها ونموٌها، لأن التعلٌم في الصغر، أشد رسوخا، واعظم قواعد لما بعده.
لقد تحرٌى أجدادنا من يتولى تعليم أبناءهم، فاختاروا من يملك حسن الخلق، وتوفرت لديه خصال رشيدة كريمة، ومن ذاع صيته بعلوم القرآن، حيث يتجلى الغرض الأسمى بتكوين الشخصية السٌوية لأطفالنا مع اهتمام واسع لتنظيم المعلومات بعد توصيلها، نظريا وعمليا، وعلينا الٌا ننسى أن النهج الإسلامي شمل الجنسين، الذكر والانثى، وساوى بينهما بالحقوق والواجبات، وإلى جانب اختيار المعلم المربٌي، كان وجوب اختيار الكتاب الذي فرض ضرورة احتوائه نصوص تلامس جوانب الحياة الاجتماعية والاخلاقية، تلك النصوص التي تحاكي المجتمع وتتفاعل معه، اي ضرورة أن يحيا الأطفال حياتهم اليومية، بتفاعل النصوص ومشاركتهم بشكل مادي ملموس، يراعي فيها قدراتهم الفكرية واستعداداتهم الذهنية، لأنهم كاطفال، ومع خطواتهم الأولى، داخل وخارج المنزل، فإنهم عاجزين للفهم الإجمالي أو بالجملة، فالأولى تدريبهم لحصولهم على ملكة الفهم والحفظ والتذكر..
ثم الانتقال بهم إلى ما هو أوسع وفق استعداد كل منهما، وهذا الذي يحملهم إلى التقدٌم والتفوٌق، أما اذا اختلط عليهم الامر، فيما يتعلق بالمعلومات، فإنهم بلا شك سيقفون عاجزين عن الفهم والإدراك، فيجمد فكرهم ويتقاعس الذهن عن التحصيل، فيهجر العلم والتعلٌم.. لذلك ينبغي أن يتميٌز الكتاب ببيان الآداب الاجتماعية وقيمها الاخلاقية، على اعتبارها ملكات تعلٌم الاطفال، إذ من خلالها يتربٌوا ويتادٌبوا ويعتاد تنفيذها فتتوضح حسن العلائق وتترسٌخ،على مستوى الذاتي والموضوعي، حيث يراعى الأدب والذوق في التعامل الاجتماعي على جميع المستويات، جرٌاء تطبيق الأنظمة والقوانين العامة.
لقد حرصت الرسالة الإسلامية كل الحرص، على التنشئة الاخلاقية إضافة للرعاية الصحية، إذ اوجبت عزل الطفل المريض، خوفا من انتشار المرض عن طريق العدوى، اضف الى ضرورة منع تناول الأطعمة المكشوفة والمعروضة من قبل الباعة المتجوٌلين، كما فرضت وجود طبيب لمعاينة الأطفال بزيارات دورية شهرية، وعليه، نجد أن المنهج الإسلامي تفرض احتواء التربية والتعليم، ضمن التكافل الاجتماعي الذي يلزم التطبيق العملي لمبادئ الإسلام، اي ما تقدم انما يدلل ويندرج تحت عنوان، التخطيط التربوي السليم، إذ به ينتج حيوية الفكر، والنشاط الجسدي، فيولٌد اجيالا متيقظة، يلفها الأمن والأمان والطمأنينة، الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ. وبهذا يتحقق أمر النمو المطرد، ويضمن الشعور بالنجاح والتفوٌق الدائم.
بصورة عامة، تتأثر تنشئة الأجيال الصاعدة برؤية وأحكام أولئك الكبار، وأساليب اختيارهم، وأنماط تفكيرهم، وكل ذلك يتأثر بظروف الزمان والمكان، من تاريخ ونظام وحكم وقوانين وعلوم وتقاليد وأعراف، يعني أن ما تحمله المناهج التربوية، انما ينتمي إلى إطار ثقافي شامل، يوجٌه ويرشد وينشىء، انطلاقا مما حمله أولئك المسؤولين.. لذلك يجب وضع الخطط المتحررة التي تنظر إلى الطفل بكليته، باعتباره إمكانية عظيمة، كما أنه استعداد كامن يتقبٌل التوجيه واكتساب المعلومات وليونة التغيير، هذا يعني أنه ملكة التكيٌف والتكامل، وعلى هذا تتوقف العلاقة الطيبة بين التخطيط والعلم والقيادة، إلى جانب مدى فعالية تطبيق فعالية أصول التشريع الذي أراده الله تعالى لخلقه.
هنا وجب بيان أخلاقية مهنة التعليم التي تميٌزت بميزات وخصائص، ولها من الاهمية البالغة في إعادة نسج لحمة ما تمزٌق داخل انسان الفرد وانسان الجماعة. حيث تتلخص تلك الاخلاقيات بضرورة أن:
1 – تقوم مهنة التعليم على ثقافة عامة متخصصة، مرجعها النص القرآني.
2 – تفرض تقنية احترافية، دقيقة واضحة.
3 – أن تمثل أخلاقيات وقيم عالية المستوى، توضٌح الحقوق والواجبات، وتحدد أنماط السلوك السٌوي مع وجوب التزام تنفيذها داخل المجتمع.
4 – تتمتع باستقلالية ذاتية، مشبعة بالإيمان العلمي الموضوعي.
كل ذلك يوضٌح ويبيٌن أن عملية التعليم والتربية، ليست مهنة نترزق منها، انما هي أصل من أصول العبادة والتشريع، انها مهنة رفيعة المكانة، أخلاقية التصرف والسلوك، فصاحبها يقع تحت مسؤوليات جمٌة، تفرض تحلٌيه بصفات وقدرات قيادية غير عادية، لأنه المصنع الذي يؤهل النفوس، ويصقلها ويدفعها إلى معترك الحياة الإنسانية العامة، فإما تولٌد شرٌا وأما تطلق خيرا.
=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=