تربية وثقافة

نهج عملي لصحوة أبدية.. تعريب العلوم.. الجزء “2”

خاص المدارنت”..

أديب الحاج عمر/ لبنان

لقد حددنا سابقا، المسار الأول لخريطة طريق الصحوة الأبدية، والتي قد تمثلت في أن تكون مع الله تعالى، قولا وفعلا، من خلال بناء منهج فكري تربوي تعليمي متجدد، أما المسار الثاني الذي سنتناول بيانه تحقيقا وبحثا، يتمثل بواجب تعريب العلوم، من خلال إحلال اللغة العربية الفصحى محلها الطبيعي، بحيث تنطلق مع أجيالنا من المهد إلى اللحد، فوق أجنحة المدارك والمعارف، كي تتحقق العدالة الحقة، وتتولد السعادة القصوى لدى الإنسان في عموم إنسانيته، وفي كافة العلوم .

إنني من المؤمنين بضرورة التعريب، من حيث أن اللغة العربية بمثابة خبزنا اليومي، تعايشنا في حياتنا، في ثقافتنا، داخل المعاهد والجامعات، وعلى اختلاف أنواعها واصنافها، وفي جميع مراحلها، مع ضرورة تهيئة الظروف الملائمة لذلك. انطلاقا من أن اللغة تلعب دورا أساسيا، بين بني البشر، كأداة تفاهم وتعارف، كما وأنها تعتبر الوجه الحضاري لشعبها، وتكوٌن الإطار المرجعي لمناحي الحياة، وعلى جميع المستويات، السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والدينية… واللغة وما تحمله من خصوصية ثقافية وتاريخية لابناءها، فإنها تعتبر لسان حال الرابطة القومية، التي بها تتميٌز شخصية وتاريخ أمة عن غيرها، فاللغة هي العنصر الأساسي في تكوين ذاتية الامة، إضافة إلى غيرها من العناصر في تشكيل آنية القومية.

عندما نتحدث عن التعريب، انما نقصد تعريب المناهج التعليمية كأساس أولي، ومن ثم بدأ العمل إلى ضرورة نقل المصطلحات العلمية والعملية إلى حضن اللغة العربية الفصحى، لأن حاضر ما تعيشه امتنا العربية، جراء ما خلٌفه الاستعمار العسكري والثقافي والفكري، انما تعود اسبابه إلى ضعف وتقهقر لغتنا العربية الفصحى، وحلول الإفرنجية والاعجمية مكانها في المدارس والمعاهد، والجامعات… وعلى انواعها العلمية، لهذا السبب يجب أن تتعالى الصيحات مطالبة بضرورة التعريب لجميع البرامج في كلّ المراحل، الأكاديمية منها والتقنية على السواء، ولهذا الأمر يوجب عقد المؤتمرات والندوات العلمية، بيانا وتوضيحا، ثم إصدار التوصيات، وتشكيل اللجان النخبوية إشرافا على التنفيذ والمراقبة، تخطيطا وتوجيها، تصويبا وتعديلا، اثباتا لماهية أن الحقائق التربوية والتعليمية التي يكتشفها الإنسان بلغته، انما هي الأقوى فعالية والاعظم اثرا، والاجدر كفاءة بالنتائج الخيٌرة، وانعكاسها على النفوس، كمٌا ونوعا، تطورا ونماء .

من هنا، ينبغي مواجهة التحديات والصراعات المحدقة بامتنا، والمهانة القابضة باعناق أجيالنا، كما وينبغي ضرورة اعتماد اللغة العربية الفصحى، حصنا منيعا للانطلاق في معركة التحرر الفكري، خلاصا ومنقذا، آخذين من حضارة الماضي عبرة، ومعبرا الى اعادة تحقيقه وتثبيته ثانية، في اصالته وعلميته، في شرائعه وأخلاقه، واستنبات واقع حيّ، آمن مسالم، يعمٌه العدل والاخاء، تطبيقا لأمر الله تعالى في الاسوة الحسنة، انطلاقا من أن العقل العربي المتميز عبر التاريخ، علمي في برهانه، كونيٌ في رؤيته، فطريٌ في بصيرته، ويقينيٌ في دعوته، واجتماعي في حكمته، وسلميٌ في غاياته، وعالمي في أهدافه.

لا شك أن عملية التعريب تواجه مشكلات وصعوبات، ومن جهة ثانية، فالخصوم الأعداء، يضخمون ويعظمون العمل على استحالة، فمن تلك العقبات نذكر: عدم توفر المراجع العلمية العربية، نقص المصطلحات وصعوبة إيجادها، اختلاف الرؤية بين الأقطار العربية، غياب أساتذة العلوم للمراحل الجامعية… الخ، ولكن، مثل ذلك، ومثل هذه العقبات قابلة الحلول ولا محالة فيها، فلا يجوز أن نقف مكتوفي الأيدي، وعلينا واجب العمل، والاستمرار فيه، فلا نكون سدا ولا حائلا أمام هذه القضية المحورية الحيوية، انها حياة لا موت بعدها للغتنا وامتنا، إذ أنها على أهمية بالغة، وعلى خطورة عظيمة على السواء، وبخاصة، بعد أن اعتمدت اللغة العربية الفصحى، لغة عالمية لدى دول العالم، على الرغم من انها لغة شعوب الأرض كافة، بوحي الله تعالى، ولكن أهل العقوق من أبنائها الكثر، والذين ازدادوا كثرة، هم اليوم ومنذ زمن، أداة ضعفها وهدمها، ولكن شرفاء الأمة العربية الاسلامية، بالمرصاد لهم، واعدين متوعدين احياءها. وهذا ردٌ شاعرنا العربي “حافظ ابراهيم” وعلى لسان اللغة الفصحى، ينشد :

وسعت كتاب الله لفظا وغاية / وما ضيقت عن آي به وعظات

فكيف أضيف اليوم عن وصف آلة/ وتنسيق أسماء المخترعات

انا البحر في احشاءها الدر كامن/ فهل سألوا الغوٌص عن صدفاتي ؟

فلا تكلوني للزمان فإنني/ اخاف عليكم أن تحين وفاتي. ..

وهكذا، ومن البيان، وجوب احترام الإنسان شخصيته وذاتيته، بحيث تؤدي إلى وجوب احترامه لغته، عن طريق إتقان تعلمها، وإدراك تشعبات فنونها، إلى أن تصبح عضوا من كليته التى يعتز ويفتخر بوجودها، وبهذه القاعدة يتضح إلى أن من أعزّ لغته، فقد أعزذ شخصيته وذاتيته، ومن استهانها وأذلذها، فإنه بلا ريب قد أذلّ شخصه، أسرته، أمته، وتعرّى من كرامته الانسانية. وعلى هذا المبدأ، إن قَولي إنني عربي الأصول والانتماء، فهذا يعني إنني قد تميزت بخصائص وسمات تكويني الشخصي الذاتي، فجسدي يمثل الإرث العضوي وارتباطه بعنصري الدم والنسب، بينما روحي تمثل الإرث الفكري والثقافي، وهذان الارثان يبرزان روحية اللغة، جوهرا وتجسيدا، والتي تمثل العنصر الأساسي والاولي في تكوين الشخصية والذات العربية .

لقد عمل المستعمر “كعدو” ولا يزال، على طمس الشخصية والذاتية العربية، كي يستمر في إخضاعها لشخصيته وذاتيته، وذلك عن طريق نشر لغته وإعلاء شأنها، لأنها الأكثر طلبا ورواجا بين الدول العظمى، لأنه كمستعمر، ومنذ نشأته، يدرك تماما أهمية وخطورة اللغة، انطلاقا من دورها الفاعل والمؤثر في توجيه عقول أولئك الزاحفين إلى أرضنا العربية، وأولئك المتخرجين من جامعاتهم ومعاهدهم “ضعاف النفوس الذين اضاعوا لغتهم وهويتهم”، فقد طلبوا من الزاحفين ضرورة فرض تعليم لغتهم ونشرها لدى العامة، واكبر مثال، ذلك المغرب العربي، كما وقد أوصى نابليون بعثته إلى مصر العربية، بتعليم أبناءها الفرنسية، قائلا: أن ذلك خدمة حقيقية للوطن الام فرنسا.

وهكذا، فإن من سيطرت لغته وحكمت ثقافة الآخرين، فيكون بلا ريب قد استعمرهم، عسكريا وثقافيا، انطلاقا من هذه الحقيقة، وجب تعريب العلوم باصنافها، إضافة إلى المناهج التعليمية كافة، لأنه السبيل الأساسي والمركزي لمواجهة التحديات العلمية والتكنولوجية، وأنه الطريق المعبد الأوحد لإنقاذ مجتمعنا وامتنا، من براثن واقع التخلف والتقهقر، ثم تتحرك النهضة داخل ذواتنا دافعة العرب بايقاظهم من غفوتهم إلى صحوتهم .

أن اللغة الأم، هي التي تحدد مسالك تصرف المرء، وتوجه سلوكه، وتبين له كيفية التفكر، ومن ثم اتخاذ المواقف المشرفة، فالانقطاع عنها، يعني الانقطاع عن الجذور التاريخية، وعن الأصول الذاتية، مما يؤدي الى فقدان النظم الاجتماعية في حياته، اضف الى انسلاخه عن الهوية الوطنية والقومية، لذلك وجب ضبط عملية التعريب، بحيث لا يسمح بتسرّب الأساليب الاعجمية، بردائها العربي، حرصا وتشديدا على جمال لغتنا العربية، وبهاء صفائها ونقائها، وصونا لاسلوبها وبيانها وبلاغتها.

إن لغتنا العربية حيٌة بروحها، محفوظة خالدة، متجددة بتجدد واجتهاد فكر أهلها، فاللغة هي الوجود، وجود أبناءها، ويفرض الدخول إلى اعماقها، تقنينا ويقينا مقوننا، مرتبط بذاتية الأمة ومصلحتها العامة، محصنة بحدود مغلقة أمام الاستيطان الاجنبي، وأمام الهجرات الوافدة، فاللغة هي الأمة الحرة المستقلة الامنة، وهكذا فإن لغتنا العربية، حيٌة لا تموت، وهي حرة مستقلة آمنة.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى