تربية وثقافة

ومضات في فضاء الذاكرة!

د. محمود المسلماني/ لبنان

“المدارنت”..
الحاضر متخم بأزماته. في فضاء الرأس تزدحم هموم شتّى، تعصف بهدوئه، فأكاد أتقيّأ امعائي.
أدرت مقود الزمن، فجرى الأمام نحو الخلف الى ربوع اعتدت أن أحجّ اليها كلما ضاقت حول عنقي أنشوطة الحياة القاسية. كنت بحاجة إلى أن أملأ رئتيّ بهواء نقيّ من تلك الربوع التي تفتح لي ذراعيها بحنوّ كبير.
ومضة في أفق الذاكرة، ويحطّ بي الرحال في بستان “بو منصور”. الرجل قامة تناطح أغصان تفاحاته القديمات، ووجه تزاوج فيه العرق والتراب في وحدة حميمة. قبضة المحراث في يسراه، وفي اليمنى “مسّاس” طويل يهشّ به على دابّتين، تروحان وتجيئان، وخلفهما “سكّة” تمخر بطن الأرض اثلاماً متحاذية.
وبين الحين والآخر، تسمع صوت الـ”حاااا”، يردّدها ليستحثّ خطوات الدابتين عندما تتراخى القوائم عن التقدّم بخفّة ونشاط، حتى إذا بلغ آخر الخط (الثلم)، صاح بهما “خييير” ورفع المحراث ليبدأ شوطًا جديداً في خط معاكس جديد.
– العوافي يا بو منصور، كيف هالرزآيات؟
– شوفة عينك. والله يا عمّي، الفلّاح بيتعب كتير، بس تعبه ما بيروح ضيعان. الله كريم.
هززت الرأس ومضيت..
– عوافي “بو شهاب”.
– كيفك عمّي خليل؟
– مبيّن فكّيت الفدّان اليوم بكّير يا حجّ برَهيم!..
وتستوقفني مجرفة “بو شاكر”. إنّ لها رنّتها المميّزة وهي تخبط الحصى والتراب، تزيحهما عن طريق المياه التي تجري خلف أشجار المشمش، تروي ظمأ جذورها، وتبعث في شرايينها دم الخصب والحياة.
ولم يكن ابو شاكر لتهدأ له حركة، فهو يتقدّم المياه نشيطاً خفيفاً يزيل من امامها العوائق لترتوي اشجاره على أكمل وجه. ولا بأس في سعيه هذا أن يطأ التراب او الوحل، او تغطس قدماه في الماء، ما دام ينتعل “الجزمة” الطويلة التي تقيه من البلل، مع أنّ هذا لم يكن ليحمي الشروال الفضفاض والقمباز المشمّر والحطّاطة البيضاء من لطخات المياه الموحلة.
لكنّ الرجل الذي بلّله الماء والعرق، لم يكن ليشعر بالكلل والملل، بل كانت السعادة تملأه، وهو يرى شجراته ترتوي فينتعش لانتعاشها، وتهتزّ جوارحه غبطة مع اهتزاز اوراقها الخضراء.
ومن شجرة الى شجرة، حتى يكتمل الارتواء وتكتمل البسمة على ثغر كل نبتة في بستان “بو شاكر”، فيصيح من طرف البستان..
– بو نايف، يالله؛ دير الميّ، فيوضع “السُّكر” موضعه، وتجري المياه الى بستان آخر.
كانت الضوضاء من حولي قد اشتدّ صخبها، فالتلفاز يرسل خليطًا من أصوات السياسة الموبوءة، والفنّ الهابط، والإجتماع المتفلّت من قيم الانسان السامية.
والهواتف الذكية تتفنّن في تقديم متنوّع من المعلومات والاخبار والبرامج التي تتراوح بين الفاسد والمفيد والمثير، فتعزل هذا عن ذاك، وتحصره في عالم خاص مستقل عن عالم الشمس والهواء والإنسان المشكّل من لحم ودم.
التفتّ يسارًا، فإذا الفراش قد بسط، فألقيت عليه حملي الثقيل من جديد.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى