مقالات

أدب السجون.. انتقامُ الكاتب من جلّاده!

بروين حبيب/ البحرين“المدارنت”..

تأكّدت عندي – وأنا أتابع سقوط نظام الأسد في سوريا قبل أسابيع – فكرة وردت في إحدى طبعات رواية «شرق المتوسط» حيث كتب عبد الرحمن منيف تصديرا أشبه ببيان سياسي جاء في خاتمته هذه النبوءة: «الرسالة الصغيرة التي أرادتها «شرق المتوسط» أن يكون على هذه الأرض شعب حر، لأنَّ في حال وجود الحرية يمكن أن ينام الحاكم والمحكوم ملء الجفون. أما إذا كان الحاكم وحده حرا، فقد يجد نفسه من افترض أنه مالك القوة والحرية، أكثر الناس ضعفاً وعبودية، ولن يفيد الندم إن جاء متأخراً».
وتذكرت ومشاهد السقوط تتعاقب أمام عينيّ من القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي، سيلَ الكتب والروايات والمذكرات والأفلام الوثائقية التي كُتبت عما كان يجري داخل سوريا، والتي لخصها الشاعر السوري المعتقل بدوره فرج بيرقدار بقوله: «سيرشحنا المستقبل كأكبر تراث عالمي في أدب السجون».
كما أسفت لارتباط هذه الوحشية والإجرام غير المسبوق بأسماء مدن لا تدل سوى على المحبة والحضارة، فأشهر سجنين في سوريا، اللذين خرجت منهما آلاف القصص المروّعة ينسبان إلى مدينتين لا يزال عبق التاريخ بهما غضّا طريّا، فمدينة «تدمر» من أقدم مدن العالم التاريخية، وقد أدرجتها «اليونسكو» في لائحة التراث العالمي، دون أن ننسى أن اسمها اقترن باسم الأميرة العربية الملكة زنوبيا التي حكمتها، وفي هذه المدينة من آثار الحضارات التي مرت بها الشيء الكثير. كما أن صيدنايا لا تقِلّ عن تدمر قيمة تاريخية ولا تراثية، فدير سيدة صيدنايا يأتي في المرتبة الثانية بعد كنيسة القيامة بالنسبة للمسيحيين حول العالم وهو يتبع تاريخيا وما يزال لبطركية الروم الأرثوذوكس، وقد بقي إلى الآن محجّة لطالبي السلام الروحي والمحبة، رغم أنه بجوار مسلخ بشري قُتل فيه آلاف المساجين
. وأثمّن ما اقترحه الشاعر السوري جميل داري من إطلاق أسماء الطغاة على السجون، لا أسماء المدن حتى ترتبط ارتباطا عضويا بمنشئيها. وما أجدر سقوط سجن صيدنايا أن يأتمَّ بأخيه الكبير «سجن الباستيل» الباريسي الذي تحوّل من رمز للقمع الملكي إلى رمز للثورة الفرنسية، بل إن يوم سقوطه في 14 يوليو/تموز 1789 أُقِرّ بعد قرابة القرن عيدا وطنيا في فرنسا إلى يومنا هذا، وهو أيضا عيد اتحاد الفرنسيين ومصالحتهم. في خطوة قد تمحو بعض الفظائع التي جرت في الباستيل وأحفاده، من أبو غريب في العراق إلى غوانتانامو في خليج كوبا وسجون أخرى على امتداد العالم كله وثقتْ مآسيها وأسرارها أقلامٌ شجاعة قررت أن تتمرد على تكميم أفواهها.
نستحضر قبل تناول أدب السجون في سوريا، أهم رواية عالمية عما جرى وراء عالم السدود والقيود، كما سمى عباس محمود العقاد السجن، وأعني كتاب ألكسندر سولجينستين المرعب «أرخبيل الغولاغ» الذي وثّق فيه جرائم النظام الشمولي في معسكرات الاعتقال في الاتحاد السوفييتي من خلال شهادات مئات السجناء، وقد حصل سولجينستين على جائزة نوبل على رواية في أدب السجون أيضا، ولكنها ليست كتابه «أرخبيل الغولاغ»، بل عن رواية تحكي سيرة «يوم من حياة إيفان دينيسوفيتش» في معتقلات سيبيريا الرهيبة.
والتجارب في السجن تتشابه حدّ التطابق، سواء قرأناها في رواية «تلك العتمة الباهرة» للطاهر بن جلون، أو «العسكري الأسود» ليوسف إدريس، أو رائعة عبد الرحمن منيف والبداية الفعلية لأدب السجون «شرق المتوسط»، التي يَذكرُ فيها لازمة تكررت في أغلب كتابات أدب السجون، تؤكد أن الواقع أكبر من الخيال، وأن ما جرى حقيقة لا يمكن نقله على الورق، يقول منيف «كنت رقيباً على نفسي أثناء كتابة «شرق المتوسط»، أي لم أقلْ كل ما يجب أن يقال حول عالَم السجن السّياسي، وما يتعرّض له السّجين من قسوة ومهانة.. ما جعل الرواية توحي ولا تحكي، تشير ولا تتكلم».
وبالعودة إلى ما كتبه السوريون – وسيكتبون كثيرا بعد أن زال حاجز الخوف، وألقت السجون أثقالها – نستذكر أشهر رواية عن المعتقلات السورية وما جرى فيها، فمصطفى خليفة طاف بروايته «القوقعة: يوميات متلصص» عدة سنوات على دور نشر عربية لم يجد فيها من يجرأ على نشر روايته إلى أن تبنتها بشجاعة سنة 2008 دار الآداب البيروتية ونشرتها، ورأينا من خلالها عالما مخيفا، يكفي أن نقرأ سطرين مما جاء على ظهر الرواية لنعلم أي جحيم سندخله حين نتمّها، تقول الأسطر التعريفية بأنها «رواية تسرد يوميّات شاب أُلقي القبضُ عليه لدى وصوله إلى مطار بلده عائدا إليه من فرنسا، وأمضى اثنتي عشرة سنة في السجن، من دون أن يعرف التهمةَ الموجّهة إليه».

هي ببساطة حكاية شاب درس الإخراج السينمائي في فرنسا ثم قرر العودة إلى وطنه فاعتقل في المطار فقضى ثلاث عشرة سنة من عمره في سجن تدمر الرهيب، والمفارقة أن التهمة الموجهة إليه أنه ينتمي إلى تنظيم إسلامي محظور، على الرغم من أنه مسيحي، وحين يعترف تحت التعذيب بأنه ملحد يواجه مشكلة أخرى مع بقية السجناء، فينعزل في زاوية من السجن ينظر متلصصا من ثقب فيها إلى ساحة السجن ويراقب تصرفات السجناء وهذا تفسير العنوان الفرعي للرواية «يوميات متلصص».
تحمل رواية «القوقعة» بعضا من سيرة الكاتب الشخصية فقد اعتقل هو أيضا، ولكن عمودها الفقري يقوم على قصة حقيقية لصديق له. وتصلح الرواية أن تكون دليلا تطبيقيا للسجانين في الإيذاء والتحطيم النفسي مع قاموس كامل من الشتائم والبذاءات التي يسمعها المسجونون صباح مساء. ورواية «القوقعة» أضاءت باكرا قبل الثورة السورية ببضع سنوات عما كان يجري في أقبية سجون النظام السابق، فتُرجمت إلى أكثر من عشر لغات، وتبعتها روايات أخرى وإن كان الجانب التسجيلي غالبا عليها، فلم تكتب كفن روائي، بل كتبت بهاجس التوثيق وتسجيل ما جرى فعلا، مثل كتاب هبة الدباغ «خمس دقائق وحسب.. تسع سنوات في سجون سوريا» وهي أول رواية من أدب السجون كتبت بقلم امرأة، وإن كانت قد سبقتها نصوص كتبتها من تعرضن لتجربة السجن في العالم العربي مثل كتاب نوال السعداوي «مذكراتي في سجن النساء» أو مليكة أوفقير في كتابها «السجينة».

تبدأ حكاية هبة الدباغ مثل كل الحكايات المشابهة حين يجيئها زوار الفجر، ويخبرونها أن ترافقهم لخمس دقائق فقط لاستجواب سريع، وتمتد تلك الدقائق الخمس إلى تسع سنوات كاملة، ولا ذنب اقترفته سوى تمكّن أخيها من الهروب من قبضة النظام بعد أن كان متهما بالانتماء إلى تنظيم إسلامي، فأُخذت هبة رهينة بدله، وتروي معاناتها في سجن المزة العسكري ومعاناتها بعد الخروج من السجن، حين وجدت عائلتها قد أبيدت أثناء أحداث حماة في الثمانينيات.
وتتناسل حكايات السجون والمعتقلين السياسيين في سوريا فيروي لنا الروائي والشاعر الأردني أيمن العتوم حكاية صديقه الطبيب إياد سعد الذي قضى في سجن تدمر ـ مرة أخرى يحضر هذا المعتقل الرهيب – 17 عاما كاملة لم ير فيها أحدا من أهله سوى أخيه الأصغر يعدم أمامه، تمزق جسم هذا السجين كل ما يخطر بالبال وما لا يخطر من وسائل التعذيب، وتحطم روحه ابنة صغيرة تركها وهي لم تبلغ سنتها الأولى. وللتنويه لأيمن العتوم روايتان أيضا من أدب السجون أولاهما، «يا صاحبي السجن» عن تجربته الشخصية في السجون الثلاثة التي تنقل فيها ببلده، ورواية أخرى موجعة بعنوان «طريق جهنم» عن علي العكرمي سجين ليبي قضى ثلاثين سنة في سجن بو سليم في ليبيا، فليس هناك بلد أحسن من بلد.
ونلاحظ أن الكاتب سواء كان يكتب عن تجربته الشخصية، أو تجربة غيره يميل إلى الجانب التسجيلي أكثر من الخيال، فالمخيّلة المريضة للسجانين تجاوزت بمراحل الجانب التخييلي عند الروائيين، وبعد أن كتب هؤلاء الجلادون/الوحوش نصوصهم بالكهرباء ومختلف آلات التعذيب على أجساد المعتقلين، آن الأوان ليكتب المعذبون في الأرض نصوصهم رواية وشعرا وسيَرا ذاتية، لتعلَم الأجيال القادمة معاناة آبائهم، وتتعلم أيضا التفريق بين الشرير والصالح، وهي الحكمة التي خرج بها صاحب «أرخبيل الغولاغ» من سجنه الطويل: «لقد مُنِحتُ الفرصة لأحمل معي من سنوات سجني، على ظهري المنحني الذي كاد أن ينكسر تحت ثقله، هذه التجربة الأساسية؛ كيف يصبح الإنسان شريرا وكيف يصبح صالحا».

المصدر: “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى