مقالات

أسئلة صعبة أمام السوريين.. ماذا بعد رفع العقوبات؟

الرئيس السوري أحمد الشرع

المدارنت”
النشوة الوطنية التي ترافقت مع إعلان رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، مسألة لا يمكن تمثلها شعوريا بين من يتابعون الشأن السوري بذهنية المشجعين المتحمسين لكرة القدم (الألتراس). والسوريون وهم يستقبلون إعلان الرئيس الأمريكي في الرياض، لم يكونوا معنيين بما يفترضه الآخرون خارج سوريا، ولا النقطة التي خسرها محور لمصلحة محور آخر، ببساطة، لا يعرف الشوق إلا من يكابده، وأشواق السوريين كانت أبسط مما نتصور، وأكثر وجعا مما تحيطه مخيلتنا، لأن ما اعتبروه أحلاما كان جزءا من الحياة اليومية والطبيعية لشعوب كثيرة، وجدت نفسها في بعض المراحل تملي على السوريين مقادير الممانعة المطلوبة، وحدود المناورة المسموحة، وعلى السوري العادي، رب الأسرة البسيط، العامل الكادح، وغيرهم، أن يتنازل عن أمور كثيرة من أجل رسالة لم يكتب حرفا واحدا فيها، ولم يفهمها يوما، بل إن بحثا عن تلك الرسالة الخالدة بين مدونات كثيرة وظفت في قهر السوريين سيفضي إلى مجرد تخيلات وافتراضات لا تدعمها أي حقيقة على الأرض.

بعد الإعلان تداور المتابعون على مواقع التواصل الاجتماعي تدوينة سورية تعدد ما الذي يعنيه رفع العقوبات، ومنها أن يتمكن السوري من تحويل الأموال من غير وسطاء يتحصلون على نصفها، وأن يستخدموا بطاقات الائتمان ويحصلوا على سيارات مناسبة للمواصلات، أن يأكل أطفالهم حلوى لم يتذوقوها في حياتهم من قبل، بل أن يجدوا حليب الأطفال دون واسطة، وأن يأكلوا طعاما صالحا ومتنوعا لا أن يختاروا الأرخص فقط، هذه أمور يمكن أن يضاف لها الحصول على كهرباء على مدار اليوم، ويبدو أن السوريين أخذوا يعتبرون ذلك من الأمور الكبيرة، مع أنها أمر طبيعي في معظم بلدان العالم، حتى التي تعاني من تكلفة إنتاج الكهرباء.
يعرف العراقيون الأثر الذي يمكن أن تتركه العقوبات الاقتصادية في العالم الحديث المتشابك والمتداخل، فالعالم لم يعد مجرد معازل زراعية يمكن أن تعيش على الاكتفاء، وحتى هذه مع المنظومة الدولية الحديثة واتفاقيات المياه والأنهار، لم يعد ممكنا عمليا، والحقيقة أن السقوط المريع لنظام صدام حسين في 2003 والتفاعلات التي أتبعته من انهيارات سياسية واجتماعية كانت مرتبطة بسنوات الحصار الطويلة، ويرتبط ذلك بطبيعة الحال بأنماط الإنتاج في الدول تحت الحصار وحجم وتنوع البنية الاقتصادية، فما يمكن أن تتحمله إيران لا يتحمله العراق بالضرورة، ولا سوريا بالتأكيد، لأن نظامها الاقتصادي بقي لسنوات أسيرا في معادلات احتكارية وتخادمية تصب في الحلقة الضيقة حول رأس النظام.
يأتي رفع العقوبات ليكون الخطوة الحقيقية التي يمكن أن تؤسس لوجود النظام الجديد في دمشق، فالسوريون يعيشون إلى اليوم في ظلال رؤيتهم للعالم من خلال النظام القديم، وما هو حقيقي أن النظام السابق سقط عمليا من الداخل، مختنقا بسيطرة النزعة الطائفية والممارسة الأمنية والتحالفات الطبقية، في وقت كان يتطلب الجرأة في تفكيك المشكلات المرحلة لعقود من حكم الرئيس حافظ الأسد ووريثه بشار، أو إعادة إنتاج بالطريقة التي حدثت في مصر وتونس.
إلا أن طبيعة الخوف الطائفي كانت تحول دون أي مقاربة واقعية تخرج بالأسد غير المقبول شعبيا والذي تمتد أصابع قمعه للسوريين وتنكيله بهم في كثير من البيوت في سوريا، بل في لبنان وفي المخيمات الفلسطينية كذلك. فشل النظام في إعادة الإنتاج والتسوية التاريخية لأن قراره كان موزعا بين طهران وموسكو، ولأن القيادات الطائفية في الأمن والجيش تصلبت من الخوف والتوجس، من نتائج تحريك الهندسة الاجتماعية القائمة، ولأن أصحاب المصالح التجارية كانوا يعرفون أن التغيير سيعني المحاسبة، أو على الأقل فتح الباب للمنافسة، وفي المقابل، لم يكن النظام الجديد سوى الوجه الآخر لهذه الحالة المرعبة التي عاشتها سوريا، ويحمل حصته من المشاكل التكوينية التي تواصلت وتعمقت تاريخيا.
لم تكن مواكب سيارات الدفع الرباعي المندفعة من إدلب، سوى لحظة في عملية سقوطه الطويلة، التي تغذت على انفصاله عن الواقع، بل كان يمكن لغيرهم أن يخوضوا الطريق إلى دمشق من غرب سوريا أو جنوبها، الواقع أن سوريا انفجرت من الداخل، وما زالت الشظايا جارحة ومدببة الحواف وكامنة في كل مكان. العقوبات الاقتصادية التي فرضت بعد اندلاع أحداث 2011 هي الفصل الأول في الوهن الذي تمدد في الدولة السورية، ففي الحقيقة عايشت سوريا حالة من العقاب التي فرضها النظام على السوريين من خلال عمليات احتكار طويلة أدت إلى التوجس من التعامل مع الفرص القائمة والكثيرة في الاقتصاد السوري بصورة ايجابية، فرجل الأعمال المصري نجيب ساويرس الذي وجد منفذا للتعامل مع كوريا الشمالية، وجد نفسه يتعرض للبلطجة بتوظيف السياسة والقانونية لمصلحة شريكه رامي مخلوف (ابن خال الرئيس الأسد).
وبقيت سوريا بلدا طاردا للكفاءات التي توجهت لدول الخليج العربي وأوروبا والولايات المتحدة، لأن الاندماج في النخبة السورية كان يتطلب تنازلات فكرية وسياسية واجتماعية كثيرة. بقيت دمشق مدينة تفشل في اللحاق بعالم القرن الواحد والعشرين، وكان ذلك قبل أحداث 2011، فالبنية التحتية ومظاهر الحداثة، لم تكن ترقى حتى لدول مجاورة صغيرة نسبيا مثل الأردن ولبنان، ولكن النظام وكما تبدى كان يوفر لنفسه ما يريده بعيدا عن الجميع، وكم من المؤسف أن تظهر فجأة شواطئ ممتدة تنافس في جماليتها أرقى شواطئ المتوسط كانت حكرا على أسرة الأسد وحلفائها.
هذه الشواطئ وحدها كانت لتقفز بالسياحة في سوريا خطوات هائلة للأمام، وكثيرا ما تشدق المتحمسون للنظام السوري بانخفاض المديونية، بوصفه دليلا على استقلالية الاقتصاد السوري، ولم يكن الأمر كذلك يوما، فسوريا تحصلت على دعم خليجي كبير في حقبة التسعينيات، وبقيت قطر تستثمر بكثافة في سوريا لمرحلة طويلة تالية، ولكن كثيرا ما كانت هذه الاستثمارات تجد نفسها في صدام مع النخبة السورية المغلقة، أو مع عدم استقلالية القرار السوري لمصلحة موسكو، التي وقفت ضد خط أنابيب الغاز القطري – السوري – الأوروبي، لتمكين الروس من الإبقاء على هيمنتهم على إمدادات الغاز لأوروبا، الأمر الذي أشعر الدوحة بانزعاج عميق، خاصة بعد وقوفها المفتوح مع الجانب السوري بعد حرب يوليو 2006 على الصعيدين الاقتصادي والسياسي.

تتحقق للرئيس الشرع فرصة كبيرة، ربما تعمق من أزمته الشخصية بين صورة أبو محمد الجولاني المقاتل الميداني العنيد والمتهور بعض الشيء، وأحمد الشرع، ابن حسين الشرع القومي العربي، الذي كان يحمل نسخة مغايرة ومناهضة لقومية الأسد، ذات الأولويات الطائفية والأسرية الخاصة، فالرئيس ما زال أمامه الكثير ليثبت للسوريين أنه يستطيع أن يتخلص من صورته السابقة وأن يكون رئيسا للجميع، ولديه بطبيعة الحال تحدياته الخاصة وفي مقدمتها المقاتلون الأجانب الذين يحملون نموذجهم الخاص من اليوتوبيا الإسلامية السلفية والماضوية التي تصطدم مع خصوصية المجتمع السوري وتنوعه وتعدده، وستصطدم مستقبلا، بما يجعل الرئيس بحاجة لحلفاء موثوقين، ومعبرين عن كامل المجتمع السوري وأطيافه، وفرصة الانتشاء الجمعي التي تمتد ربما لأسابيع أو أشهر قليلة مقبلة هي أمام الرئيس، الذي عليه أن يحسم ملفات كثيرة بخصوص الدولة والمجتمع، أو يكون أكثر ذكاء من النظام السابق ليفتح الباب لإعادة إنتاج النظام الذي يمكن أن يستوعب بلدا بتعقيد سوريا وعمقها التاريخي ومشكلاتها الطويلة ومتعددة الفصول.

سامح المحاريق/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى