أسرانا.. وأسيرات “إسرائيليات”..!
خاص “المدارنت”..
كشفت عمليات تسليم الأسيرات “الإسرائيليات” بعض الحقائق التي يفيد التوقف عندها وملاحظة ما فيها من دلالات..
1/ في معاملة الأسرى: الأسيرات “الإسرائيليات” خرجن وهنّ باسمات بصحة جيدة، وبحالة معنوية ونفسية مرتاحة، وهذا يدل على أنهن لم يخضعن لأي نوع من الإهانة أو التعذيب أو المعاملة العدائية الإجرامية، ورغم انهن ينتمين إلى العدو الذي يشن حرب إبادة جماعية على غزة، بشرا وعمرانا ومرافق حياتية؛ ورغم العدد الهائل من الشهداء والجرحى والمهجرين من أبناء غزة؛ فإن الأسيرات حظين بمعاملة جيدة وودية لا بل أخوية، رغم أن حراسهن من المقاتلين ينتمون إلى أهل غزة، ومن المنطقي توقع أن يكونوا فقدوا أهلا أو أبناء أو أقارب أو أصحاب في العدوان الذي يشنه الجيش الصهيوني، رغم كل هذا، لم يصدر من أي منهم أيّ قسوة في معاملة الأسيرات، أو حتى مجرد الرغبة في الإنتقام منهن ثأرا لمواطنيه إن لم يكن لأهله..
على النقيض تماما من هذا؛ تعامل “الإسرائيليون” مع الأسيرات والأسرى الفلسطينيين: تعذيب ووحشية وحرمان وعزل وتجويع وحتى قتل، وهذا وحده يكفي ليبين الفارق العظيم في المستوى الحضاري والإنساني والأخلاقي بين شعب فلسطين وبين “الإسرائيليين” المستعمرين..
2/ إن الإرتياح النفسي البادي على وجوه الأسيرات “الإسرائيليات”، فضلا عن حرصهن على توديع آسريهن (المفترض أنهم أعداؤهن) بطريقة ودية وحميمية، تظهر ودًا حقيقيا وإحتراما وتقديرا؛ إضافة إلى تعلمهن شيئا غير قليل من اللغة العربية، والتعبير عن بعض مشاعرهن بها وليس بلغتهن العبرية؛ إنما يدل دلالة مهمة وواضحة على أنهن لا ينظرن للفلسطيني كعدو مجرم إرهابي، كما أخبرتهن البروباغندا الصهيونية، وهذا يبين مدى التضليل الذي يتعرض له كثير من اليهود المستقدمين إلى فلسطين، حتى يتقبلوا إبادة للفلسطينيين، كتلك التي حصلت في غزة، وتحصل الآن في جنين والضفة الغربية وسواها، ومؤدى هذا أن المشروع الصهيوني يزرع أوهاما في عقول اليهود لا تمت إلى الحقيقة بصلة..
3/ وحينما يشكر أسير آسرّه الذي هو بمثابة عدوه الإفتراضي؛ فإن تحولا فكريا وثقافيا ونفسيا يكون قد حصل في شخصية الأسير، فإنتقل من صفوف العدو إلى صفّ الصديق، أو أقله يكون قد تخلى عن موقع العداوة، وحينما تنشد إحدى الأسيرات أمام عائلتها وبعد خروجها من الأسر: أنا دمّي فلسطيني؛ فيعني هذا تحولا فكريا تاما حيال موضوع فلسطين وقضية إحتلالها، فأصبحت تقف إلى جانب الفلسطيني الذي يدافع عن أرضه ولم يعد إرهابيا معتديا بالنسبة إليها..
4/ مثل هذا التحول الذي تم لمجرد معاملة طيبة مترافقة طبعا مع بعض الشرح بحقيقة وأبعاد قضية فلسطين؛ يبين ليس فقط كذب الإدعاءات الصهيونية، وكل رواياتها الدينية والتاريخية والسياسية؛ وإنما والأهم من هذا، يبيّن إمكانية تحويل كثير من “المستحدثين” كـ”إسرائيليين”، لمجرد كونهم يهودًا؛ وتغيير رؤيتهم للوقائع مما يفتح المجال واسعا لتخليهم عن جنسيتهم “الإحتلالية”..
5/ وعلى رغم الإعلام الهائل الذي يستخدم الرؤية الصهيونية، ويعممها ويسوقها؛ فإن قليلا من التفاعل الإيجابي والحوار الحر؛ كفيل بكشف زيفه، وبالتالي، محاصرة أطروحاته الملفقة، كمثال على ذلك أن الحديث المكثف والمتكرر يوميا عن أن “حماس” مجرمة وإرهابية ومعتدية؛ سقط أمام مواجهة مباشرة مع الواقع الإنساني والتعامل الأخلاقي، وهذا يبين الدور السلبي للإعلام وضرورة عدم الإعتماد عليه كمصدر للحقيقة أو تحليل الوقائع، لأنه مملوك لأصحاب رأس المال الذين يخدمون مصالحهم السياسية وليس الحقيقة..
6/ إن العقيدة الصهيونية، بكل ما تملك من إمكانيات شاملة هائلة تختص بصناعة الرأي العام وتوجيهه؛ تفقد قدرتها على التأثير حينما تبتعد المصالح الشخصية والإغراءات الوظيفية والمالية، وهذا يؤكد حقيقة تاريخية مفادها أن الحركة الصهيونية إستخدمت كل وسائل التهديد والإغراء المالي، والمنافع والخدمات المصلحية من أجل فرض مشروعها على اليهود الذين قاومه كثير منهم في البداية، لتأتي الفطرة الإنسانية السليمة والمتحررة من لغة المصالح والمنافع؛ لتكشف زيفها وتسقط مشروعها من فكر الإنسان الحر..
7/ هذا يقتضي تثبيت منهج الفصل والتمييز بين اليهودية كدين وبين الصهيونية، كعقيدة سياسية تستغل الدين اليهودي، وتستخدمه كواجة للإبتزاز وتسويق مشروعها الإستعماري، الفصل بين اليهودي وبين الصهيوني، لا بل أن تغيير ولاء أي يهودي متحرر من الإرتباط المصلحي النفعي بالعقيدة الصهيونية وخدماتها؛ أمر ممكن ويحتاج إلى قنوات تفاعل حر وتبادل للمعرفة والحقيقة..
8/ إن إنغلاق أيّ عقيدة تستخدم الدين كعنوان لمشروع سياسي؛ من شأنه أن يحول حامليها بإتجاه التطرف والتعصب الذي يصده عن معرفة الحقيقة التي هي طريق إلى الحق والحق هو الطريق إلى الله، كما أن الإيمان الديني ما لم يكن متفاعلا مع حقائق الحياة وطبائعها ومتغيراتها؛ يكون سببا للعصبيات التي تعود فتهدره وتشوه معانيه..
9/ إن ما ظهر في عمليات التسليم للأسيرات، وما بدا عليهن من إرتياح وسرور ومودة، وإشادة بالمقاتلين وتفاعل إيجابي معهم؛ لم يدع لنا مجالا للشعور بأنهن عدوات لنا، رغم أنهن “إسرائيليات”، وهذا يدل على أن مشكلتنا ليست مع الإنسان اليهودي، بل مع الصهيوني الملتزم بمشروع إستعماري إحتلالي، وبالتالي، فإن حل مشكلة الصراع بيننا وبين دولة الكيان لن يكون على أساس ديني، بل على أساس تحرري وإنساني معا، ينتهي الصراع بمجرد أن يغادر فلسطين كل صهيوني معاد لها ولشعبها؛ مندحرا أو متخليا عن مشروعه الإستعماري..
10/ كل هذا يطرح مهمات ومسؤوليات على كل فلسطيني، وكل عربي، مؤمن بوحدة المصير العربي، إنطلاقا من ضرورة التصدي للمشروع الصهيوني: إعادة إحياء مؤسسات منظمة التحرير التي همشتها “أوسلو”، الى حد الإلغاء، ثم إحياء المشروع الوطني الفلسطيني كحركة تحرر تجمع كل الطاقات الفلسطينية في الداخل والخارج؛ برؤية شاملة لأبعاد الصراع وبرنامج متكامل لمقاومته في كل المجالات والميادين، وتنشيط التفاعل الإيجابي مع الأصوات العالمية التي تضامنت مع شعب فلسطين، وكثير منها شخصيات يهودية وأكاديمية فاعلة، وهذه تحتاج إلى رؤية متكاملة للتعاطي معها وتعميق الصلات بها وتحويل مواقفها إلى إنجازات عملية تخدم القضية، كما يطرح تحديا ملحا امام كل العرب بضرورة إيجاد منابر ومناهج ومنصات وأطر، تصنع الوعي اللازم وتعممه وتسوقه، وتحديدا في الأجيال الجديدة والشابة في مواجهة ما تتعرض له من تغييب وإلهاء وإفساد وتشويه للوعي، وتزييفه بأدوات العولمة الرأسمالية المخربة..