ألمشرق العربيّ وحصار المشاريع الكبرى!

خاص “المدارنت”
إذا غُصنا عميقًا في التاريخ القديم لاكتشفنا أن أرض العرب، كانت تتضمّن أجزاء كبيرة من ما يُسمّى اليوم تركيا وتمّت خسارتها مع باقي أجزاء سورية الطبيعيّة والعراق عبر مئات المعارك في عشرات السنين إلى أن انهزم الجيش العربيّ في آخر معركة له في غزّة حوالي 600 قبل الميلاد ممّا أدّى إلى انكفاء العرب إلى داخل الجزيرة وعلى تُخومِها.
إستمرّ الوضع بين كرّ وفرّ وإقامة لأكثر من 1200 سنة إلى أن ظهر في مكّة نبيّ ورسول يبشِّر بدين الإسلام كخلاص للبشريّة من الظلم والاستبداد وعبادة الأوثان والحكّام والشهوات.
إنتصر الإسلام في مكّة والمدينة وانطلق إلى باقي الجزيرة العربيّة ثمّ إلى الشام والعراق ومصر وتمدّدت سلطة العرب، في أقلّ من مئة سنة، من إسبانيا غربًا إلى حدود الصين شرقًا وتحكّمت بما تبقّى من أوروبا ومن العالم القديم كله ممّا جعل العرب سادة ذلك العالم، لمئات السنين، من دون مُنازِع..
بدأت سلطة العرب المسلمين بالضعف في نهاية العصر العباّسي الثاني مع دخول الشعوبيّة إلى مفاصلها نظرًا لاعتماد العرب على الأعاجِم في الجيوش وفروع الأمن فأصبح للفرس والأتراك نصيب كبير في إدارة الحكم إلى انتهى الأمر باستيلائهم على مواقع القـرار.
جاء الغزو المغوليّ والتتريّ، نتيجة لهذا التخبُّط الذي حلّ بالسلطة حلى مدى العصرين العبّاسيّين الثالث والرابع، فاستولى على العاصمة بغداد والعراق وسورية إلى أن أوقفه المماليك هام 1260 م. في معركة “عين جالوت” في فلسطين ومن ثمّ، بعد حوالي 250 سنة هُزِم المماليك على يد العثمانيّين الأتراك عام 1516 قرب حلب في معركة مرج دابق ليبدأ عصر العثمانيّين الذي استمرّ لأربعمئة سنة تمّ خلالها نقل العاصمة من بغداد إلى تركيا واستبدال لغة الدولة الرسميّة باللغة التركيّة إياذانًا بانتهاء سلطة العرب التي استمرّت لحوالي تسعة قرون..
إندلعت الحرب العالميّة الأولى بعد حوالي 400 سنة من حكم العثمانيّين الاتراك لبلاد العرب انتهت بهزيمة تركيا وحلفائها وفروع البلاد العربيّة كلها للانتداب الفرنسيّ والبريطانيّ الذي جزّأها ، بمعاهدة “سايكس/بيكو” إلى 22 دولة هزيلة ترتبط ارتباطًا سياسيًّا وأمنيًّا ومعيشيًّا بدول الغرب الأوروبيّ.
أثناء هذا الانتداب جرى ترتيب إنشاء دولة اسرائيل لتكون في قلب أمّة العرب أرضًا وشعبًا وثقافة. كيان لكي يتقاتل مع العرب ويتقاتل العرب بسبَبِه. هذا، باختصار، الدور الذي رُسِمَ من قِبَل الغرب الاستعماريّ للكيان الصهيونيّ الذي وضع لنفسه هدفًا اضافيًّا بالاستيلاء على المنطقة الممتدّة من النيل إلى الفرات التي ستهيمن على المنطقة العربيّة بأسرها وتهدِّد كل ما يحيط بها، بغضّ النظر عمّا إذا كان الغرب يوافق على ذلك أو إذا كان من الممكن تحقيقه..
بعد هذا العرض التاريخيّ الشديد الاختصار نأتي إلى المشهديّة التي نشأت بعد تأسيس دولة “إسرائيل”، قامت ثورة 23 تمّوز في مصر، بقيادة جمال عبد الناصر، لتشكِّل حالة اعتراضيّة واضحة لهذا المشروع الصهيونيّ الخبيث والخطير.
حاول عبد الناصر، من خلال مشروعه الوحدويّ العربيّ أن يجمع القوى الحيّة في الوطن العربيّ من أجل التصدّي لهذا الخطر الداهم على حضور العرب وتاريخهم ومستقبلهم فنجح في ترسيخ الأهداف الاستراتيجيّة لمشروعه في وجدان الشعب وفشِل في كسر تبعيّة معظم الحكّام العرب لأميركا والغرب. نجح في التصدّي المعنويّ وخسِر في الحرب بسبب تبنّي أميركا واوروبّا لإسرائيل ومدِّها بأحدث أنواع الأسلحة وبكل مجالات الدعم السياسيّ والدبلوماسيّ والأعلاميّ والمعيشيّ.
غابَ جمال عبد الناصر، عام 1970 فغابَ معه المشروع العربيّ. كانت أولى الانعكاسات السلبيّة لذلك الغياب هي تقدُّم المشروع الصهيونيّ نتيجة معاهدات السلام التي أبرمها أنور السادات ثمّ الملك حسين ومنظّمة التحرير الفلسطينيّة مع إسرائيل.
مع الصعود المتنامي للمشروع الصهيونيّ ظهرت بدايات تململ المشروع الإيراني (الفارسيّ) في ثمانينات القرن العشرين، مع صعود نجم الثورة الإسلاميّة في إيران بقيادة الإمام الخميني.
شكّل المشروع الايرانيّ حجر زاوية في المنطقة المشرق العربيّ، بعد سقوط نظام صدّام حسين في العراق، بسبب امتداداته المذهبيّة في بعض الدول العربيّة تجلّى في وجود ما سمِّيَ بالاذرُع الايرانيّة المسلّحة المتمثّلة بحزب الله في لبنان والحشد الشعبيّ في العراق والحوثيّين في اليمن وبعض المؤيّدين في المجتمعات العربيّة الأخرى.
بموازاة المشروع الايرانيّ نهض المشروع التركيّ (العثمانيّ)، بقيادة الرئيس رجب طيِّب أردوغان، ليأخذ مكانه في فضاء الفراغ الذي تركه المشروع القوميّ العربيّ نتيجة الهجمة الصهيونيّة الغربيّة الشرسة لعشرات السنين.
لم يدُم الوقت طويلًا حتّى اكتشف أردوغان، أنّ مشروعه لن يُكتَب له النجاح وسينتهي به إلى الفشل، واغراق تركيّا في مستنقع يستحيل الخروج منه. لذلك، انسحب بطريقة ذكيّة وانكفأ ليُحَصِّن بلاده ويحميها ممّا يخطِّطُه الغرب والشرق على المدى الاستراتيجيّ..
أمّا حكّام إيران، فقرّروا خوض التجربة إلى النهاية، فكان أن خسروا قوّة اذرُعِهِم واضطُرّوا إلى الانكفاء تحت وابل من دخان التغنّي بالانتصارات، مستخدمين كلّ ما اكتنزَه الفارسيّ من مهارة في السياسة والتبرير.
إذن، نحن الآن أمام مشهديّة جديدة قِوامُها التالي: انتهاء المشروعين الفارسيّ والعثمانيّ في المشرق العربيّ وصعود المشروع الصهيو/ أميركيّ ومحاولة تجميع مواقف عربيّة انهكها الارتباط بأمريكا والخضوع لإملاءاتها المُذِلّة.
برأيي، كمتابع، سينشأ دولة فلسطينيّة منوعة السلاح في الضفّة الغربيّة وغزّة، كنتيجة حتميّة لعمليّة “طوفان الأقصى”، وسيتمّ الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، ويتبع ذلك استقرار لفترة طويلة يتمكّن فيها الشعب العربيّ من النهوض في كل مناحي الحياة، وسيعود المشروع العربيّ بأشكال اقتصاديّة وسياسيّة واجتماعيّة وثقافيّة، على المدى المتوسِّط والبعيد، إلى أن ينشأ أجيال تعي ما يجب أن يكون ..
أمّا المشروع الصهيو/ أميركيّ، فسيأخذ أشكالًا أخرى في الاقتصاد والسياسة وغيرها إلى أن يقضِيَ اللهُ أمرًا كان مفعولا..
إيران، سينتهي بها الأمر إلى التركيز على وضعها الداخليّ، والمصالحة مع جيرانها العرب، ونسج علاقات طبيعيّة، لأنّ المرحلة الماضية أحدثت دروسًا لا يخفى على قادة إيران فهمها وفهم أبعادها.
أمّا تركيا، فهي جاهزة لنسج علاقات ودِّيّة مع كلّ العرب، لأنّ لها مصلحة قصوى في العلاقات مع أسواق من 500 مليون بين المحيط والخليج.