أنا والكتابة…
“المدارنت”/ كنت كآلة موسيقية في مستودع الآلات التي لم تجهز للعزف بعد، قبل أن أبدأ الكتابة. كنت ككلّ الذين يمتلئون بالوقار الكاذب، وبالمقدّس الذي يوهم حامله أنّه يتمتّع بحصانة لن تزول.
كنت كتلة لحميّة بلا ذات ولا كيان ولا وعي يبهر. كنت مراهقًا يمارس العادة السّرية، ويقتني المجلات الإباحية، ويسير تائهًا كما لو أنٌه يضع على عينيه نظّارات سوداء، لا تخفي حزنه ودموعه فقط، بل تحجب عنه بسوادها السميك إشارات الطّريق.
ثلاثة أماكن أحدثت فيّي إنقلابًا: ثانويّة المنارة الرّسمية التي قدّمتني كمسرحي لجمهور ريفيّ؛ لم يكن يعرف المسرح، ولا الضّحك، لكنّني أضحكته، وجعلته يصفّق! ثمّ طردتني قبل نهاية العام الدّراسي، لذا ذهبت إلى العراق.
والزّنزانة التي عرّفتني على الحبّ ويسوع وأمّي والنّور.. واسطنبول التي جعلتني في أقصى أماكن الأرض غربة وابتعادًا، لكنها جعلتني في قلب بيت الطين الذي غادرته إلى عنايا التي أحدثت فيّ انقلابًا.
كنت قبل الكتابة ألهث خلف استرضاء مجتمعي، وتطبيق سننه ظنًّا منّي أنّه الطّريق الوحيد لأكون.
أزور القاصي والدّاني في المناسبات، أشارك في اللّقاءات، أدبك وأغني في الأفراح، وأتولى المهام في الأتراح، وأطرق الأبواب مهنّئاً في الأعياد، وأظهر رجولة في وجه لم يكن قد نبت فيه الزّغب بعد.
وأمنح إصغائي وصمتي، واستعدادي لمن يكلّفني. لم أكن سعيدًا بما أفعل. كنت أرغم على ذلك، وأظنّ أنّ الآخر جواز عبوري إلى حيث لا أدري.. حتّى اكتشفت أن الآخر كان بلا جغرافيا ولا ممرّات، ولا أماكن للإقامة.
كنت أفتش عن الحصانة حيث لا يملكها أحد، على الرّغم من ادعاء الجميع ذلك. بدأتُ الكتابة، ورحت أتسللُ إلى وعيي، وبدأت تتساقط مع ذلك كلّ تلك الحصانات المزيّفة الواحدة تلوى الأخرى. كانت الحصانة الدّينية أوّل ما أسقطه وعيي.
بدا الأمر على شكل طلاء منزلي تآكل بفعل التّقادم، والرّطوبة والعفونة، وراح يتساقط في الزّوايا وفوق أثاث المنزل، وما عادت تنفع معه الأغطية، وإزاحة قطع الأثاث إلى هنا وهناك.
ثمّ تلتها الحصانة العائلية، تلك التي بدت لي أشبه بالرّكوب في حافلة تقلّ الجميع. الكلّ يلقي خلالها بنصائحه وخبراته وعواطفة المبالغ فيها، غير أنّهم نزلوا عند أوّل استراحة، تناولوا الطّعام كلّ على حسابه، وقد بقيت أنا وحدي داخل الحافلة جائعًا، يمنعني التّعفف من الإقرار بالجوع وعدم حيازة المال.
ثمّ سقطت حصانة الأمّة.. تلك التي كادت تفتك بي لولا رحمة الوعي التي جعلتني أميّز قسوة الرّصاصة التي انطلقت من بندقية، ضغطت على زنادها إصبع محتل شّقيق إلى اليوم يقتل في أهله ليبلغ فلسطين.
صرت أكتب، وأبني عمارة حصانتي حرفًا حرفًا، وكلمة كلمة، ونصّا نصّا، حتى صارت كتابًا. اكتشفت بالكتابة أنّي ذات واعية.. وأن من واجب هذه الذّات أن تؤكّد نفسها واحترامها باسقاط الحصانات كلّها. حصانات مزيفة أقامها الجهل والخوف والكذب والوهم والعاطفة.
حصانة فتكت بأجيال.. فأجبرت فتاة أحبّت على شرب السّم. وفتى ضبط يكتشف رغبته الجنسية على إطلاق النّار على نفسه. وكثيرون على التّوحش بغية تحمّل المواجهة والاستمرار في الحياة.
لقد عبّدت الكتابة طريق نفسي إلى نفسي. فجعلتني ليّنًا مرهفًا، لكنّي لا أخاف القول وإزاحة السّتائر عن المسكوت عنه. بعد أن نشرت أوّل أعمالي، أفقت على الجغرافيا التي كنت أبحث عنها للإقامة فيها. لم تكن جغرافيا تشترى بالأمتار والدّونمات. كانت جغرافيا تحدّد أطرافها وأرجاءها مساحة النّص الإنساني. أذكر أني بت بعد توقيعها عاريًا إلّا من ذاتي.
ليلتها أدركت أنّ لي ذاتًا تعصمني من الخوف. وما زلت منذ ذلك التّعري، أكشف عن كلّ عوراتي التي خبأتها لأجل أن يرضى عني الحمقى الأغبياء. ليلتها أدركت أنّي قد أخرجت نفسي من مستودع الآلات إلى منصّة العزف.