أوضاع السويداء وجبل العرب إلى أين؟

“المدارنت”
ليست المشكلة فقط مسألة التعدي المباشر على محافظ السويداء ومبنى المحافظة، وإشهار السلاح في وجه المحافظ، ثم إجباره على إصدار الأمر بإخلاء سبيل أحد الموقوفين بتهمة سرقة السيارات ومسائل جنائية أخرى. ولعل ذلك الإعتداء وماتركه من آثار جمة على السلم الأهلي، بات بابًا مشرعًا للكثيرين، من أجل القول علنًا وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أن الأمر لم يعد مقبولًا، وأن التعاطي الهاديء معه ومع مايماثله، واستيعاب هذه التعديات من قبل الحكومة، لم يعد ممكنًا، ولابد من عملية الحسم العسكري والأمني المماثلة، وإنهاء تواجد مجموعات مسلحة خارجة عن القانون في محافظة السويداء وسواها، وأن ترك هذه المجموعات تعبث في الواقع الجنوبي اسورية، من الممكن أن يؤدي فيما لو استمر في منطقة جبل العرب ومحافظة السويداء، إلى حالة فلتان أمني قد لاتحمد عقباها، بل هي ستكون مدخلًا واضحًا نحو الانقسام والانفصال. هذا ما أصبح متمظهرًا على ألسنة البعض في سورية.
أما الحقيقة فتقول: إن معظم أهل السويداء ووجهائها وشيوخها، قد أدانوا كل هذه التعديات، وهو مافعلته ايضًا فصائل وطنية في السويداء، رجال الكرامة، ولواء الجبل، وغيرهم، وأن لا أحد من الممكن أن يقبل بمثل ذلك، ولا من يريد هذا الفلتان الأمني، الذي سيجبر حكومة دمشق بالضرورة على اتخاذ خيارات عسكرية، لاتريدها، و لايريدها الناس كل الناس .
إن عدم معالجة انبثاقات الواقع المجتمعي المتحرك في السويداء، ثم كثرة وجود الفصائل العسكرية، بالإضافة إلى عدم تلبية المطالب الجنوبية، بتعديل بعض بنود الإعلان الدستوري الصادر مؤخرًا، والذي كما يبدو أنه لم يلب طموحات بعض السوريين ومطالبهم، ومنهم أهل السويداء، ومن ثم إعادة إنتاج حالة جديدة ، تكون من ضمنها المشاركة الشعبية الواسعة الطائفية والإثنية بشكل واقعي وليس على المستوى الشكلاني فقط، كما حصل بالتشكيل الحكومي الأخير.
كل ذلك ومايرافقه من أحداث دراماتيكية في غير مكان من سورية، ومع استمرار حالة الرخاوة والتسويف في معالجة ماهو مهم، هو بالتأكيد ما أدى وسوف يؤدي لو لم تعالج الإشكالات عقلانيًا، إلى هذا الواقع الذي يجري بين الفينة والأخرى، حيث نجد عيانًا أن التعدي يصل إلى مستوى غير مسبوق، ومن الممكن أن يؤدي إلى انفلات كبير، لايمكن إيقافه، مع التعدي على شخص المحافظ (بكور) بشكل مباشر.
من هنا فإنه يمكن القول أن العقلانية السياسية في التعامل مع مايجري في الجنوب السوري وعدم الانجرار إلى أمكنة أخرى قد تؤدي إلى الدخول في نفق الاقتتال الداخلي، نعم فإن العقلانية السياسية الرصينة والهادئة، هي الملاذ والأمل والحل لايكون إلا عبرها وبها.
المطلوب اليوم من حكومة دمشق المزيد من الهدوء، وتنحية وإزاحة الرؤوس الحامية جانبًا والعودة إلى العقلانية عالية المستوى في التعاطي مع إشكالات الواقع المتحرك في السويداء، لأن أهل السويداء هم جزء مهم وأساسي من نسيج المجتمع والشعب السوري، على مدى التاريخ، واستيعاب تحركاتهم، ولجم التعديات عبر القانون، لايكون إلا من خلال مزيد من العقلانية السياسة، والقناعة بأن لاصوت اليوم يجب أن يعلو على صوت العقل، في هذه المسألة، بل في كل مسألة وطنية، تواكب عملية البناء وإنتاج واقع سوري جديد ديمقراطي، والعمل على إقامة دولة المواطنة الحقة.
ويبدو أن إسرائيل ما انفكت تراقب مايجري في السويداء، ومن مصلحتها تحريك الأمور سلبيًا نحو اقتتالات ما، وهو ماتفعله بالفعل عبر دعمها لبعض الشخصيات، التي لاتعبر عن أهل السويداء أبدًا، لكنها (أي إسرائيل) تريد بها وعبرها اللعب على الوتر الطائفي الذي لايريده السوريون، ولا يقبلون أي لعب به لا داخليًا ولاخارجيًا .
ومع ازدياد رفض وجهاء محافظة السويداء للتدخلات الإسرائيلية، وكذلك بعض الدول الاقليمية والصديقة للشعب السوري، فإن خيارات إسرائيل لا يمكن أن تجد لها أي صدى، وبالتالي فإن المعالجة كانت وسوف تبقى ويجب أن تستمر معالجة وطنية سورية بامتياز.
الحل الوطني في جبل العرب والسويداء لايمكن إلا أن يكون حلًا وطنيًا صرفا بلا تدخلات خارجية، لا إسرائيلية ولا سواها، والتعاطي مع إشكالات مجتمعية أية إشكالات لابد أن يكون وعيويًا وعميقًا، وليس صحيحًا أن الحل يمكن أن يكون كما يريده البعض عبر التعاطي مع القشور ثم يتم نسيان العمق الحقيقي للمشكلة.
المسألة الوطنية السورية اليوم وحلها الصحيح يحتاج وأكثر من أي وقت مضى إلى مزيد من العقلانية السياسية، وإلى مزيد من الولوج ضمن الحل الدستوري والديمقراطي، حيث ينتظر أهل السويداء وكذلك الشعب السوري الكثير آليات من المشاركة الوطنية، من قبل جميع الأيديولوجيات والأثنيات والطوائف، وبالطبع خارج إطار المحاصصة، ومبدأها البائس، ولنا في نموذج لبنان والعراق خير مثال على فشل تجربة المحاصصات، بل لابد ان يكون ضمن الحالة الوطنية العقلانية الهادئة، وبعيدًا عن تجليات ومنتجات الرؤوس الحامية، التي لاتريد للوطن إلا المزيد من الخراب. وإذا كان هناك من اتفاق تم توقيعه بين الحكومة السورية و(قسد) ضمن بنود تفصيلية كثيرة، فلم لايكون ذلك أيضًا مع كل فصائل الجنوب السوري في السويداء، وكل أركان مشيخة العقل في السويداء، حيث لا تكفي بعض الاتفاقات الجزئية التي جرت مع جزء أوأجزاء من الفاعلين في السويداء. ومازلنا نعتقد أن قادم الأيام، إن أردنا معالجة جدية وحقيقية لوضع السويداء، لابد أن يشهد الحل الشامل، وصيغة نقاط يوافق عليها الجميع، عبر مشاركة فعلية حقة للجميع، وصولًا إلى إنتاج العقد الاجتماعي السوري الجامع والمبتغى. ولنا في تجارب أخرى جرى حلها في الواقع السوري خير مثال، فالسوريون جميعًا يريدون استقرارًا حقيقيًا، بعد أن تم رفع العقوبات الأميركية والأوربية عن كاهلهم، ولايودون وجود أية حالات تنغص عليهم أفراحهم، لا في الساحل السوري، ولا في السويداء، ولا في شمال شرق سورية. والاقتصاد السوري الذي بدأ في الانتعاش يحتاج إلى مزيد من فسحة الحريات، ويحتاج إلى الكثير الكثير من المشاركة المتنوعة، كما يحتاج بالضرورة إلى جملة إصلاحات خدمية، وعقل سياسي يعي ماله وماعليه، ليتم إشراك الجميع بالعملية السياسية وصولًا إلى تشكيل مجلس تشريعي تعددي، يشارك فيه كل السوريين بلا استثناء، فهل نحن مقبلون على استقرار سياسي وأمني واقتصادي؟ أم أنه ستظل العقول الحامية من تلعب في بمصائرنا وتتحكم بنا على طول المدى؟