أيام مضطربة في إدلب!
“المدارنت”..
في ظهيرة يوم الثلاثاء، الفائت، نظّمت “كلية الآداب بجامعة إدلب”، ندوة بعنوان: «الثورة والهوية» تصدّرها الإعلامي أحمد موفق زيدان الذي أكّد على ضرورة «ترسيخ هوية جديدة مجمع عليها» بعد الاتفاق على «محددات أمن ثوري» واحدٍ يعمل كمصدّ حقيقي لكل «المشاغبين»، أو «الرعاع» كما سبق أن وصف الصحفي المقرّب من «هيئة تحرير الشام» عامة المحتجين على قائدها أبي محمد الجولاني.
عندما كان زيدان ينطق بكلماته كانت قوات «الهيئة» تضرب بعنف اعتصاماً سلمياً أمام «المحكمة العسكرية» يطالب بحلحلة ملف المعتقلين لدى الجهاز الأمني الذي كان ملثموه رأس حربة هذا الهجوم الشرس، بالإضافة إلى أعداد من الجناح العسكري للجماعة، وبعض المدنيين الذين يحملون العصيّ والأدوات الحادة، والذين قالت وسائل إعلام «الهيئة» لاحقاً إنهم من «وجهاء» مدينة إدلب وسكان الحي الذين استاؤوا من صوت هتافات المعتصمين وطبولهم العالية التي منعت الأطفال والنساء من النوم. ومن هنا لم يكن أمام «الهيئة» بد من التدخل لمنع إقلاق راحة الجوار، ولا بأس إن حصل ذلك بأساليب اختلط فيها إطلاق النار في الهواء بضرب المعتصمين بالأسلحة البيضاء وتمزيق خيمة الاعتصام وتكسير كراسيّه بغلٍّ سجلته عدة مقاطع مصوّرة.
بعد ساعات من تحطيم الاعتصام أصدر الجولاني أوامر لقوات من الجناح العسكري بتطويق مدينة إدلب ومنع دخول المتظاهرين من الريف، في تدخل غير مسبوق للعسكريين، من «الهيئة» وحلفائها، في مجريات الاحتجاجات القائمة منذ أشهر. وبعد أن كانوا في رتبة «المجاهدين» التي لطالما حرص المتظاهرون على تبجيلها لتحييد العسكريين وحصر الخصومة مع قائد «الهيئة» و«جهاز الأمن العام» الذي فاحت رائحة انتهاكاته مؤخراً ولم يعد السكوت عنها ممكناً.
وفي اليوم التالي، اجتمع الجولاني مع من وصفهم إعلامه بأنهم «وجهاء المناطق المحررة»، وألقى فيهم ما تمنى أن يكون كلمة الخلاص من هذا الكابوس الطويل. وأكّد فيها على أنه لبّى «المطالب المحقة» التي رفعها الناس طالما أنها تمسّ حياتهم اليومية، أما استخدام هذه الطلبات المعاشية في «إزعاج الناس» و«قطع الطرقات» بخيمة الاعتصام، واستخدام «ألفاظ نابية» فهو مما لا يمكن التهاون فيه لأن الأمور تكون بذلك خرجت عن «طورها الطبيعي» في منط قة تعيش في «مرحلة تاريخية حرجة»، كما قال قائد «الهيئة» أثبت أنه الذي لا يتساهل في أخلاق رعاياه وآدابهم وحسن جوارهم، مؤكداً أن «الهيئة» جهزت عدّة عظيمة. وهو ما كان على المتظاهرين أن ينتظروا يومين ليروه بأعينهم، حين طاردتهم المصفحات، وأُطلقت عليهم القنابل المسيلة للدموع، وضُربوا بوحشية بينما كانوا يحاولون الانضمام إلى المظاهرة المركزية لمدينة إدلب في يوم الجمعة التي أطلقوا عليها اسم «إرهابكم لن يكسر إرادتنا».
أحدثت الموقعتان؛ فض الاعتصام وقمع المتظاهرين، صدمة في المنطقة الخاضعة لسيطرة «الهيئة»، لا سيما مع المقارنات التي تستدعيها تلقائياً بمشاهد مماثلة تحفظها الذاكرة، واليوتيوب، للطريقة التي تعاملت بها قوات النظام الأمنية والعسكرية وشبّيحته مع المتظاهرين الأوائل في عام 2011. فتحولت الشعارات التي كانت تنادي «يا مجاهد يا أخونا/ الأمنية ظلمونا» إلى اتهام كل من يشارك في القمع اليوم بأنهم «شبّيحة»، وهو ما أثار حنقاً واسعاً في صفوف العسكريين.
هذه تطورات خطرة في منطقة مكتظة ومهددة عسكرياً ومتداخلة اجتماعياً. فإذا كانت الهدنة التركية الروسية هي ما يمنع قوات النظام، التي تبعد كيلومترات فقط عن الحدث، من اجتياح إدلب؛ فإن ذلك قد يتغير فجأة في حال كانت اللقمة سائغة بانشغال قسم من الجناح العسكري بتطويق اضطرابات داخلية. مع التحفظ على قدرة الفصائل، وأولها «هيئة تحرير الشام»، على المدافعة المجدية إذا شارك الطيران الروسي في الهجوم بطريقته المعتادة في الأرض المحروقة.
من جهة أخرى، ينتسب القامعون والمقموعون إلى بيئات أهلية واحدة. سواء أكانوا من إدلب أو من المهجّرين إليها من مدنهم، كحمص والزبداني ودير الزور وبانياس وغيرها. بل إن مجموعات «المهاجرين» أصابها الشرخ بين من يعمل مع الهيئة، من شرعيين وقضاة، وبين من يطالبها بالإفراج عن الذين اعتقلتهم من أبناء بلاده.
وقد تجلت آثار هذا التداخل في تمكن قنوات المحتجين الإعلامية من التعرّف بسرعة على أي أمني يظهر مكشوف الوجه بالصدفة، بتحديد اسمه وبلدته وتاريخه خلال سنوات الثورة، ومطالبة أرومته بنصحه وردعه أو بالتبرؤ منه. ينطبق هذا حتى على أبرز قادة «الهيئة» الذين لا يعدموا وجود ابن عم لهم بين المحتجين، يُفسَح له مجال الكلام بشكل خاص، ليقرّع قريبه و«يردّه عن غيّه» ويوصيه بالقفز من مركب «الظالمين». ومن الواضح أن الدماء التي بدأت تسيل، جراحاً حتى الآن، ستحوّل الشقاق الآيديولوجي والسياسي إلى ثارات بين العائلات أو البلدات أو العشائر.
وإذا كان المتظاهرون مصرّين بوضوح على سلمية حراكهم، فإن ذلك ليس مضموناً إلى الأبد في منطقة محشوة بالأسلحة وتعرّضت لعنف مديد وتعاني من انسداد في الحلول الفعالة ومن صعوبات استثنائية في المعيشة. خاصة مع تمسك الجولاني بقاعدة الطغاة الأثيرة «أنا أو الفوضى»، ملوّحاً بأن الإطاحة به تؤدي إلى انهيار المؤسسات وغياب الأمان.
والحال أن زعيم «الهيئة» أقوى من معارضيه. ليس فقط بما حصّله من مقوّمات الحكم الأمني والعسكري والمالي والإداري؛ ولكن أساساً لأن ظهره إلى الجدار. بإمكان خصومه أن يخافوا أو ييئسوا أو ينكفئوا أو يهاجروا، أما هو فليس أمامه سوى الهروب إلى الأمام لأنه يعرف أن تنحيه عن «قيادة المحرر»، وهو الموقع الذي احتله عملياً دون انتخاب أو حتى «بيعة»، تعني مساءلته في يوم قادم قريب. وهو ما لا يستطيع التعرض له بما حوت عليه دفاتره من «أحكام سلطانية» أصدرها بالإعدام وفق حساباته الخاصة، وتلاعبات مادية تصرف فيها كمالك، والكثير من الملفات المقفلة بأمره.
ومن هنا فإن تصاعد الهتافات إلى عبارة «الشعب يريد إعدام الجولاني» مؤشر خطر على مسمعه. وهو يأخذها بجدية أكثر حتى ممن أطلقوها من المحتجين ظانين أنها مجاز أو تعبير مفرط عن الغضب. ولذلك هو مستعد لأن يقاتل حتى النهاية مهما كانت العواقب على المنطقة وسكانها. فهو لا يدافع فقط عن مكتسباته بل كذلك عن رقبته التي حمّلها الكثير ولم يعد بالإمكان إنقاذها إلا بالمزيد مما أثقلها. وليست من الحكمة محاصرته بخيارات صفرية لأنه سيسلك، دون أي شك، سبيل عليّ وعلى أعدائي.