منذ أن تولى الدكتور (عبد الله) حمدوك، رئاسة مجلس الوزراء السوداني في مطلع عام 2019، كتبت عدة مقالات في حقه، كلها كانت تصبّ في نقد إدارته لحكومة ثورة، أسقطت أعتي سلطة مستبدة وفاسدة في العالم العربي وفي المحيط الإقليمي، واستمرت زهاء ثلاثة عقود، وقدمت رتلًا من الشهداء والجرحى والمفقودين، ولم يكن إنتقادي له من فراغ أو عبثً، لكنه كان إستقراءًا لمعطيات وحيثيات صاحبت طريقة رحلة اختياره العشوائية للمنصب، التى كانت تؤشر إلى شكوك حول شخصه، وحول قدراته، ثم كانت أيضا تتبعًا لمسار رحلة مواقفه الضعيفة والمهزوزة والمترددة، في إتخاذ القرارات المناسبة حيال المواقف الحاسمة.
منذ توليه السلطة، بدأ حمدوك، منذ الوهلة الأولى تائهًا حائرًا، فاقدا للدليل وللبوصلة، ومرّ أكثر من عامين، ولم يقدم فيها رؤيا واضحة أو خطة عمل لحكومتيه – الأولى والثانية – في ظاهرة هي الأولى في تاريخ العمل السياسي.
الوثيقة الدستورية، التى هي بمثابة دستور البلاد الإنتقالي، جعلت من السودان، دولة ذات نظام برلماني، والسلطة التنفيذية في عهدة مجلس الوزراء، والسلطة السيادية عند مجلس السيادة، ولكن سيادته، سلم ملفات مهمة هي صميم عمل مجلس الوزراء للمكون العسكري في مجلس السيادة، كملف الإقتصاد والسلام والسياسية الخارجية. بالإضافة إلى ذلك، ترك مفاصل الدولة الإقتصادية والأمنية والشرطية والعسكرية والخدمة المدنية في أيدى الدولة العميقة للنظام السابق.
عندما قام القائد العام للقوات المسلحة بإنقلابه فى 25 أكتوبر الماضي، كانت صفات الدكتور حمدوك التوفيقية والمترددة والضعيفة أمام الضغوط، سببا جعل إفتراضية رضوخه وقبوله بالإنقلاب، محتملة وواردة للسير معهم في الطريق المعوَجّ.
كانت هبة الشعب السوداني بالملايين مرة أخرى فى كل أنحاء أقاليم السودان، ضد الإنقلاب، وكان رفضه مشهودًا أيضا من كل السودانيين فى مشارق الأرض ومغاربها – في بلاد المهجر – مطالبا بحكومة مدنية خالصة، ووقف كل العالم الحر إلى جانب الشعب السوداني في نضاله من أجل الحرية والكرامة والديموقراطية.
سقط عشرات القتلى ومئات الجرحى، جراء العنف المفرط للقوة من القوات الإنقلابية، لينضموا إلى رتل الشهداء والجرحى، الذين راحوا ضحية إجرام تلك الطغمة العسكرية منذ عام 2019.
كان كل الشعب يقف خلف الدكتور حمدوك، وقدمه كرمز – رغم التحفظات – استجابة لنداء الواجب الوطني، الذى يفرض التلاحم والتضامن فى مثل هذه الظروف، وكنا نتوقع من سيادته الصمود، وتحدّي ضغوط الأسر والترهيب، ويرتفع إلى مستوى الشارع، وينتصر للدماء الغالية التي سالت وتسيل على أرض السودان، لكنه وقع في مصيدة العسكر، وآثر الإنهزام والخنوع، وأصبح فى لحظة بؤس من رئيس وزراء الثورة، رئيسًا لوزراء الإنقلاب، راضيًا طائعًا مختارًا بوصاية مجلس السيادة الإنقلابي على الفترة الإنتقالية وهندستها، بالطريقة التي تروق له والإشراف عليها فى كل مفاصلها، وبذلك، فقد كل رصيده السياسي، وأضحى بلا حاضنة سياسية، وعُرّي من الزخم الشعبي، وجُرّد من الرمزية التى صبغها عليه الشارع وذلك هو الخسران المبين.
إن الإتفاق الذى وقع لا يحاسب الإنقلابيين على جرمهم، ولا يطالبهم بالعودة إلى ما قبل يوم 24 أكتوبر، ولا يطالب بإلغاء كل قرارات السيد البرهان التى حل بها مجلس السيادة والولاة، وفصل بها قادة الخدمة المدنية، وأحل مكانهم أعضاء المؤتمر الوطني (المحلول)، فقد تم إلغاء قرار إبعاد حمدوك كرئيس لمجلس الوزراء، علما أن كل تلك القرارات غير دستورية مطلقًا، أطلقت يد العسكر على كل المستويات.
السيد حمدوك، لا يملك الحق أن يتخذ قرارا بمفرده يعقد إتفاقا معيبا – فى ظل ظروف غامضة وغير عادية، بإسم شعب بأكمله ينشد الحرية والكرامة والعدالة، وقدم من أجلها التضحيات الجسام – من دون أيّ مقابل يذكر.
وبهذا الإتفاق، دخل السودان مرحلة غاية في التعقيد، وفرض واقعا جديدا، يتطلب التعامل معه بوعي وإدراك للمتغيرات على الساحة الوطنية، وللتدخلات الإقليمية والدولية بوسائلها المرئية والخفية.
ويقيني إن الإرادة الشعبية، ستظل يقظة لكل الإحتمالات، والشارع الثائر متقدمًا سياسيًا على هدى السلام والعدالة وحكم القانون، وسيندحر كل الخونة والمرجفين.
“ستنتهي الحرب، ويتصالح القادة، وتبقى تلك العجوز تنتظر ولدها الشهيد، وتلك الفتاة تنتظر زوجها الحبيب، وأولئك الأطفال ينتظرون والدهم البطل، لا أعلم من باع الوطن، ولكني رأيت من دفع الثمن”.