إحياء “منظمة التحرير” أولوية فلسطينية
“المدارنت”..
لا شك أنَّ الفلسطينيين يواجهون أزمة غير مسبوقة، وهذه الأزمة ليست بسبب أحداث السابع من أكتوبر 2023 وما تلاها، وإنما هي أسبق على ذلك وأعمق بكثير، وتعود إلى فترة حصار الرئيس الراحل ياسر عرفات، ثم استشهاده مسموماً محاصراً داخل المقاطعة، التي كان يُفترض أنها ستكون نواة للدولة الفلسطينية، التي أمضى الشعبُ الفلسطيني 70 عاماً وهو يُناضل من أجلها.
الأزمة الفلسطينية الراهنة هي النتيجة الحتمية، والامتداد الطبيعي لفشل المفاوضات في «كامب ديفيد» في صيف عام 2000، عندما اكتشف الرئيس عرفات ومعه كبير المفاوضين صائب عريقات، أن إسرائيل والولايات المتحدة قد خدعا الشعب الفلسطيني، وأن إسرائيل مصممة على عرقلة قيام دولة فلسطينية، وأنها متمسكة بالاحتلال وتريد أن تجعل من السلطة الفلسطينية أمراً واقعاً ومستمراً، من دون أي تطوير، بل تريد تحويل هذه السلطة إلى جهاز يخدم الاحتلال ليس أكثر، وهذا ما رفضه الفلسطينيون وانتفضوا ضده في انتفاضة الأقصى الثانية التي اندلعت بعد شهرين فقط على فشل مفاوضات «كامب دايفيد».
منذ عام 2000، أي منذ ربع قرن من الآن، والعملية السياسية متعثرة، حيث لم يوقع الرئيس محمود عباس أي اتفاق مع الإسرائيليين، بل كان آخر لقاء سياسي انعقد بين عباس والإسرائيليين في عام 2014، ومنذ ذلك الحين حتى عباس ذاته – الذي يعتبره الفلسطينيون أكثر براغماتية من غيره – بات على قناعة بأن إسرائيل متمسكة بالاحتلال ومتمسكة باستخدام القوة المفرطة لفرض واقع جديد في الضفة الغربية وغزة، وهو واقع يستحيلُ معه قيامَ أي دولة فلسطينية في المستقبل.
ثمة أزمة فلسطينية إذن عمرُها اليوم نحو ربع قرن؛ إذ انقضَّت إسرائيل على اتفاق أوسلو، ولم يعد هذا الاتفاق موجوداً بعد أن انتهت مرحلته الانتقالية (خمس سنوات)، ومنذ ذلك الحين وجد الفلسطينيون أنفسهم متورطون في سلطة للحكم الذاتي تحت الاحتلال، وهذه السلطة لا هي دولة ولا هي «لا دولة»، وهي حالة لا بُد أن يجد لها الفلسطينيون حلاً يحميهم من الإجراءات الإسرائيلية أحادية الجانب.
لا يبدو أن ثمة سبيلا لتجاوز هذه الأزمة إلا بالعودة إلى ما قبل السلطة، وهذا لا يُمكن أن يتحقق إلا بإعادة بناء وإحياء منظمة التحرير الفلسطينية، بما في ذلك إعادة بناء مؤسساتها وعلى رأسها «المجلس الوطني الفلسطيني»، الذي يُعتبر الهيئة التمثيلية العليا للشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
وفي هذا السياق ينعقد في العاصمة القطرية الدوحة هذه الأيام «المؤتمر الوطني الفلسطيني»، الذي يلتئم لأول مرة بمبادرة من مجموعة واسعة من نخبة فلسطينيي الداخل والخارج، وهي أول مبادرة من نوعها على الإطلاق، تهدف للمطالبة بإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وإعادة بنائها والبناء على ما أنجزته المنظمة خلال العقود الماضية من نضالات متراكمة، من دون محاولة خلق بديل عبثي عن هذه المنظمة، فيما يتميز هذا المؤتمر بأنه يضم قيادات وممثلين عن مختلف الفصائل والقوى الفلسطينية، بما في ذلك حركة فتح، على الرغم من أنهم جميعاً يشاركون بصفتهم الشخصية وليس تمثيلاً رسمياً عن فصائلهم.
واقع الحال أن الشعب الفلسطيني يحتاج اليوم إلى ثورة سياسية داخلية تُعيد بوصلته إلى الاتجاه الصحيح، وتُفشل محاولات الاحتلال لفرض وقائع جديدة، خاصة بعد حرب الإبادة المدمرة التي استهدفت قطاع غزة لأكثر من 15 شهراً، والتي لم تنتهِ حتى الان، بل توقفت في هدنة مؤقتة ولا أحد يعلم ماذا يخطط الإسرائيليون بعدها، لكنهم يتحدثون في العلن عن تهجير جماعي وترتيب لمستقبل القطاع بما يخدم المصلحة الإسرائيلية. واللافت أيضاً أن الإسرائيليين لن يقبلوا لا بحركة حماس ولا بسلطة محمود عباس لحكم القطاع، بل يريدون ترتيباً جديداً من خارج العلبة التقليدية، وهو ما يعني أن الكل الفلسطيني أصبح مهدداً بالمشروع الإسرائيلي الجديد.
المطلوب اليوم هو أن يقتنع كل الفلسطينيين بأنه يتوجب إعادة بناء منظمة التحرير وإصلاحها، والتعامل معها على أنها الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين، عبر ضم الفصائل غير المنضوية حتى الآن، كما يتوجب على قادة السلطة الفلسطينية أن يقتنعوا بأن هذه السلطة لا مصلحة لنا بها في شكلها الحالي، وأن الرئيس محمود عباس هو رئيس منظمة التحرير، قبل أن يكون رئيس السلطة، وكونه رئيساً للمنظمة أهم بكثير من كونه رئيساً لسلطة تحت الاحتلال.
أما المنظمة فهي الجهة التي تُمثل الفلسطينيين في الداخل والخارج معاً، وهي التي سبق أن تفاوضت باسمهم ووقعت الاتفاقات باسمهم، وهي التي يجب أن تظل أعلى وأسمى من أية سلطة.