إرادة التطهير العرقي الأميركية/ “الإسرائيلية”!
“المدارنت”..
التهجير جزء أساسي من إرادة التطهير العرقي وسياساته بالنسبة لكيان الاحتلال، لذلك لا يمكن النظر إلى “إسرائيل” كمشروع سياسي قومي، من دون هذا المكون التأسيسي العنصري الفاشي. “إسرائيل” تعني إبادة الفلسطينيين بشكل تام. هكذا يخطط اليمين المتطرف بشقيه القومي والديني، كلاهما يعتبر أنّ حقّ إسرائيل في الوجود يعني ببساطة حقها في التطهير العرقي. هذا هو جوهر التفكير الصهيوني منذ التأسيس، الذي لقي بعد ذلك مساندة متواصلة وحضنا أمريكيا غير محدود، نراه كيف يتعزز بوضوح من خلال خطاب صريح وعلني يعبر عنه دونالد ترامب، رئيس دولة تدّعي الديمقراطية وحقوق الإنسان.
خطط ما للمستقبل بشأن غزة، أو غيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، يطرحها الجانب الأمريكي في تناغم مع حليفه الإسرائيلي، وكأنّ مصير الشعوب بيد هؤلاء الذين يكرّسون شريعة الغاب. هذا المشروع الذي يتم ترويجه بدعامة أمريكية، هو في الأصل ركن رئيسي من أركان ماضي إسرائيل الاستعماري الإحلالي، تواصل تقديمه في كل مرة بالطريقة نفسها، وليس دعوة دونالد ترامب سوى إعادة طرح لفكرة ردّدها قادة الكيان الإسرائيلي منذ السبعينيات.
أمريكا تعتبر إسرائيل كيانها المهم في المنطقة، وهي تدعمه بشكل مطلق لا تغيير فيه، بقطع النظر عن تداول الحزبين على الحكم في البيت الأبيض. مرة أخرى يفشل العالم في التمييز بين الجلاد والضحية، ويستمر آخر استعمار استيطاني معربد بحماية أمريكية غربية. وبخطاب يتبجّح بافتكاك الأرض وتسليمها للمستعمر وتهجير أهلها وتطهيرهم عرقيا. ليس مستغربا ما يقوم به ترامب من دعم مطلق لفكرة التطهير العرقي، والوقوف في صف كيان فاشي بعد حرب بشعة ارتكب فيها جرائم ضد الإنسانية.
فمسار تأثير اللوبي الصهيوني الذي تمثله منظمة «أيباك» وتستفيد من ترسانة معقدة وفعالة من أدوات التأثير في المؤسسات كافة، وحتى في مراكز القرار يزداد قوة ونفوذا. وعبر دور الصهيونية المسيحية، تنجح مجموعات الضغط التي تخدم إسرائيل في تثبيت وسائل دعاية وتأثير بالغة القوة على الرأي العام. وهو المسار الثاني الذي أطلقه المبشرون الطهوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر.
ويبدو أنه يعطي أكله مع فروض الطاعة التي يؤدّيها الرؤساء الأمريكيين تباعا. الاعتداءات الكبرى على القطاع، والتصاعد في استعمال وسائل الإبادة، بل زيادة حجم الدعم الأمريكي بالخصوص، قد تزامنت كلها مع انتصار حماس في انتخابات 2006، بعد فك ارتباط إسرائيل بالقطاع وانسحابها منه.
هذه حقيقة يجب عدم تناسيها أو إغفالها. لقد كان ذلك الانتصار تحوّلا مفصليّا في الساحة الفلسطينية، حيث لم تكن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل مستعدة لرؤية فتح تخسر الميدان إزاء حماس، بعد أن وقع القيام بكل شيء من أجل جعلها، عبر منظمة التحرير، الطرف المقابل الذي يمسك بالقرار الفلسطيني ويمثل بمفرده وإلى الأبد، ودون مراعاة أي اعتبارات أخرى الفلسطينيين.
لقد كان الأمر متعلقا برؤية استثمار يتهاوى، وتحوّلات غير مرغوبة في خريطة الصراع انطلقت منذ هزيمة «جيش الدفاع» أمام المقاومة الإسلامية في لبنان في يونيو 2006. تلك هي الديمقراطية الغربية التي فضحها تشومسكي.
المساندة المطلقة الحالية للكيان الصهيوني في الولايات المتحدة تطورت ببطء وبسبب عوامل تاريخية معقدة، ولم تصبح أمرا واقعا ونهائيا وتاما إلا في أواخر ستينيات القرن الماضي. حتى إنّ نشأة فكرة التهجير (الترانسفير)، التي يراها أيلان بابيه مرتبطة بالأيديولوجيا الصهيونية منذ اليوم الأول لنشأتها، تتناغم مع ما تحدث عنه هرتزل عندما عبّر صراحة أنه «بعد احتلال الأرض ومصادرة الملكيات الخاصة، علينا أن نسعى لطرد السكان الفقراء عبر الحدود من دون أن يلاحظ أحد ذلك، ونوفر لهم في دول العبور التوظيف الذي نمنعه عليهم في دولتنا.
يجب تنفيذ كل من عملية المصادرة واجتثاث الفقراء سرا وباحتراس». مع الأسف طبق الأمر باستمرار منذ 1948 تحت أنظار العرب، الذين تخلوا شيئا فشيئا عن القضية الفلسطينية. خاضت الولايات المتحدة الكثير من الحروب، ودعمت حروبا أخرى بالوكالة، وزعزعت استقرار العالم، وهي من كرّست فوضى الشرق الأوسط مع كيان الاحتلال الصهيوني.
ويبدو أنّ الهدف الخفي لكل مغامرات أمريكا المباشرة وغير المباشرة، ليس كسب الحرب، ولكن تنظيم تدمير دول بأكملها، وإحداث فوضى سياسية واجتماعية، بهدف التقاط القطع، أو ما تبقى منها، على نحو السيطرة على الاقتصادات الوطنية والنهب والسلب. ويتم تنفيذ هذه الأجندات منذ عقود من خلال تغيير النظام، إما بالتدخل العسكري، أو عبر «الثورات الملونة» والاختفاء المتزامن وتجريم جهاز الدولة، جنباً إلى جنب مع «الخنق الاقتصادي» وفرض ديون ضخمة مقومة بالدولار، الذي يبقى إلى الآن رافعة التفوق الأمريكي.
كل هذه المسارات تجعل التناقض بين فكرة الأمن المشترك والعلاقات الدولية مسألة مكشوفة. الرئيس الأمريكي بقراراته المتعالية وتعامله الفج مع الرؤساء، قد يكون بصدد جعلنا نختبر سيادة الدول وحقيقة النظام العالمي والعلاقات الدولية. سلوكه يعيدنا إلى النظر في مبدأ السيادة الوطنية الذي يلعب دورا محوريا في تحقيق الهدف الأسمى، الذي قام عليه ميثاق الأمم المتحدة، وهو حفظ السلم والأمن الدوليين، وهذا المبدأ يزداد أهمية، مع فقدان دول كثيرة القدرة على الحفاظ على النظام العام والاستقرار في الداخل، وحماية سيادة الدولة ووحدتها الترابية من التهديدات والأطماع الخارجية. والأهم من كل ذلك استقلالية قرارها الوطني.
ما لا شك فيه أنّ فلسطين كشفت واقع العرب، وحقيقة رابطة القوميات المشتتة في المنطقة، فهي حد اللحظة ما زالت تتنافس على الاندماج في محاور دولية أو إقليمية، لا علاقة لها بالذاتية العربية، في نوع من التبعية المذلة خارج مظلة الأمن القومي والمصالح المشتركة. وهي واقعية تفضح الأداء الاستراتيجي الهزيل، الذي لا يتجاوب بشكل وازن مع القضايا الدولية، ولا يبحث عن الندية والتعامل المجزي، في عالم ما زال يسوده منطق القوة. ويعكس التوظيف غير الموضوعي للمرجعية الدولية، والرغبة في الإبقاء على التفوق الغربي، والتحكم في الآخر وتركه في حالة الاعتماد على الإحسان الدّولي.
في المحصلة، مشكلة الوجود الاستعماري الإسرائيلي الذي يريد تصفية فلسطين وتهجير شعبها عبر التطهير العرقي، لن ينتج عنها سوى مزيد من الفوضى والحروب والانتهاكات. وبشكل عام، الأمور تنذر اليوم بموجات عدم استقرار ذات منسوب عال ليس في الشرق الأوسط فقط، بل حتى في الدول الديمقراطية الليبرالية، التي تخلّت عن مبادئ حقوق الإنسان والعدالة الدولية.