إسرائيل الجديدة.. سياسيون يسيطرون على القضاة ودولة تشرعن الإبادة الجماعية!

“المدارنت”..
الترتيب القانوني الأصلي لتعيين القضاة كان لحظة نادرة في السياسة (ليس فقط في إسرائيل)، كان بمثابة معجزة. فالحكومة التي احتفظت حتى ذلك الحين بصلاحية تعيين القضاة، وافقت على نقل الأمر إلى لجنة، التي فيها للحكومة من بين التسعة أعضاء تمثيل لوزيرين. في هذه اللجنة أيضاً اثنان من أعضاء الكنيست وثلاثة قضاة من المحكمة العليا وممثلان عن نقابة المحامين.
الائتلاف الحالي بنجومه الكبار، لفين، روتمان، وساعر الذي عاد وهو تائب، يدفع قدماً بالتسييس الكامل لتعيين القضاة مع إضعاف الأساس المهني في التعيين. وظائف القضاء يتم إشغالها حسب اعتبار واحد ووحيد، وهو الولاء المطلق للجهة السياسية التي دفعت بهذا التعيين. في عملية خداع، يمنحون المعارضة هدية في احتفال التسييس، لمنع أو قمع معارضتها، لكن ذلك سيؤدي بالتأكيد إلى صفقات قذرة.
من أجل إضعاف الجانب المهني في التعيين، يقترحون التنازل عن ممثلي نقابة المحامين. لماذا؟ بسبب أداء إشكالي من رئيس النقابة السابق، آفي نفيه. ولكنه ادعاء مثل ادعاء من يقوم بالتعميد ويده دنسة. فبعد كشف أفعال نفيه (على الأقل بعضها)، طلبوا ضمان أن يتم انتخابه مرة أخرى لنقابة المحامين؛ أي أن المشكلة الحقيقية ليست مؤسسية. من ناحيتهم، ممثلو النقابة ممتازون، شريطة أن يؤيدوا مرشحين الائتلاف. لذلك، من أجل السيطرة السياسية، يفضل أن يكون واحد من المحاميين يعينه الائتلاف والآخر تعينه المعارضة بدلاً من ممثلي النقابة. وهكذا فإن ستة أعضاء من بين التسعة أعضاء في اللجنة سيكونون سياسيين، مقابل أربعة من بين التسعة في القانون الحالي.
المحاكمة المناسبة تستند إلى المهنية بجودة عالية (بما في ذلك في مجال المزاج القضائي والسلوك)، وإلى الاستقلالية والحيادية. القانون الجديد يقوض ذلك. إذا أردنا ضمان الولاء المطلق لمن قام بالتعيين فمن الأفضل مستوى مهني متدن بقدر الإمكان. هذه ميزة عامة للنظام الحالي الذي يعمل على تحطيم المهنية في الخدمات العامة، مثلاً، تعيين مدير عام وزارة المالية ومفتش الخدمة العامة.
منظومة القضاء التي تنتخب على أساس سياسي ستحث القضاة على الانشغال طوال الوقت، بدلاً من الحقائق والقانون، في حل لغز توقعات الذين دفعوا قدماً بالتعيينات، والذين ترقيتهم في أيديهم. وسينشغل الجمهور بتصنيف القضاة وانتمائهم لمعسكر سياسي على شاكلة “هل أنت مع أو ضد”، الأمر الذي يذكر باقتراح الرئيس إسحق هرتسوغ بالخطير، ضم القاضي سولبرغ لرئيس المحكمة عميت لاختيار أعضاء لجنة التحقيق، وكأن كل واحد يمثل معسكراً شعبياً آخر.
لن تتمكن هذه المنظمة وبحق من أن تحظى بثقة الجمهور (مثلما لا يحظى مراقب الدولة الحالي بثقة الجمهور). كلما كانت منظومة القضاء تشبه المنظومة السياسية أكثر، وهكذا سيزداد الانطباع بأنه لا لزوم لها، وستموت الثقة بها. سيتحول القانون من مجال معياري يتم تحليله بأدوات احترافية إلى امتداد بائس ومتقلب للسياسة.
في قيم دولة إسرائيل قيمتان: كونها دولة يهودية وكونها دولة ديمقراطية. من هنا ينبع التزامها العميق بحقوق الإنسان. وهذا ما كان واضحاً حتى فترة قريبة بأن في الديمقراطية فصلاً بين السلطات (منظومة توازنات وكوابح)، وأن الجميع يخضعون لسيادة القانون. كما هو معروف، إسرائيل ضعيفة جداً في مجال فصل السلطات (مثلاً، الحكومة تسيطر بالفعل على الكنيست).
إن نفي مهنية واستقلالية السلطة القضائية، الذي هو جوهر الاقتراح، ينهي فصل السلطات ويناقض طابع الدولة الديمقراطي. لذلك، يجب إلغاء هذا القانون لكونه “تعديلاً دستورياً غير دستوري”. إضافة إلى ذلك، لو أن قائمة وضعت في حملتها الانتخابية نية العمل على تسييس تعيين القضاة، وقامت المحكمة بدورها بشكل سليم، لوجب عليها إلغاء مشاركتها في الانتخابات.
بشكل عام، الدول الديمقراطية لا تتم تصفيتها بضربة واحدة. الفترة الأخيرة مليئة بالضربات التي توقعها السلطة الحاكمة بها: الإجراءات الجارية لإقالة رئيس “الشاباك” والمستشارة القانونية للحكومة، وعودة بن غفير إلى وزارة الشرطة بعدما فعله فيها، من خلال الاستخفاف بالمستشارة القانونية إلى درجة الخطر الملموس والقريب على استمرار وجودها.
يجب التذكر بأن إحدى وظائف المحكمة هي انتقاد السلطة الحاكمة. عندما تأتي الحكومة لتقرر كيف يتم تعيين القضاة، فإنها تكون في حالة تضارب مصالح. طريقة مواجهة هذه المشكلة، إذا أردنا تغيير طريقة قائمة، هي وضع الموضوع في يد لجنة خبراء حقيقية ومستقلة من أجل تقديم اقتراح للجهات السياسية المنتخبة. هذه الفكرة بالتأكيد تبعث على الضحك في أوساط أعضاء الائتلاف، لأنه لا نية لإصلاح المنظومة، بل إخضاعها.
السياسيون مناسبون لذلك أكثر من الخبراء. لا أنهم امتنعوا عن هذا المجال من ناحية مهنية، بل لأنهم قاموا بعملية تشريعية متسرعة وسطحية ومعيبة. الأسوأ من ذلك، أنه من المفروض أن يمارس المشرعون عملهم بموضوعية وحسن نية. في هذه الحالة، يتصرف واضعو القانون انطلاقاً من عداء شديد وصريح للنظام القضائي، ولديهم سجل حافل من التشهير به والقذف. لا يمكن طلب قانون منهم لا يخجل كتاب القوانين.
بعد ما تعلمناه عن الأخطار الأمنية الكامنة في الدفع قدماً بالانقلاب النظامي، ثمة حاجة إلى قدر كبير من الوقاحة من أجل الانشغال به في الوقت الذي تجري فيه معركة أمنية متعددة الجبهات، وحتى بعد استئناف القتال في غزة.
يجب أن يكون واضحاً، خلافاً لما يتم ادعاؤه، أن نية من يدفعون قدماً بالاقتراح ليس تغيير تركيبة المحاكم قليلاً للوصول إلى توازن صحي أكثر، إن نية من يعتبرون أنفسهم محافظين، لكنهم بالفعل ثوريون بجنون، هي القيام بانقلاب في الأسس القيمية العميقة للدولة. هم يريدون تأسيس إسرائيل جديدة ومختلفة: عنصرية، لليهود فقط، تشرعن الترانسفير والإبادة الجماعية، وتنكر القانون الدولي والأخلاق العالمية وقيم المساواة والحرية والكرامة الإنسانية والعدالة، وحتى إنها تنكر قداسة الحياة. ستكون هنا محكمة تشرعن كل دنس وكل رجس. وهي بدلاً من المطالبة بحرية المواطنين، ستطالب بحرية الفساد واستبداد الحكومة. وبدلاً من أن تكون عمود النار أمام المعسكر فإن المحكمة ستساعد على حلول الظلام على البلاد.
بعد طرد هذه الحكومة السيئة، يجب إعادة وبسرعة الأمور إلى نصابها: التطلع إلى معجزة تتمثل بالقانون الأصلي، وتعلم الدروس مما مر علينا. أي التمسك بما اقترحه عضو الكنيست مناحيم بيغن: رئيس اللجنة يكون رئيس المحكمة العليا، ويكفي وجود ثلاثة سياسيين من بين أعضائها: وزير العدل، وعضو كنيست من الائتلاف، وعضو كنيست من المعارضة. اليمين القديم مثل الخمر المعتق.