مقالات

“إسرائيل” في حساب التاريخ

“المدارنت”
كثيرا ما نضيع في زحام التفاصيل، ولا ننصت بما فيه الكفاية إلى صوت التاريخ، وبالحساب الميلادي، يعبر كيان الاحتلال “الإسرائيلي” لفلسطين إلى عامه الثامن والسبعين اليوم، وتسمع من يبشرون ويهللون ويراهنون ربما للمرة الألف على تصفية القضية الفلسطينية، ونهاية حلم التحرير الفلسطيني، وتنظر حولك، فترى من قد يصدق ويسوغ هذه الأقوال الشائهة، ترى غزة تحت النار والذبح والتجويع والإبادة على مدى عشرين شهرا مضت، وترى الضم والاستيلاء الاستيطاني المتوحش عنوانا على ما جرى ويجري في الضفة الغربية بعد تهويد القدس، وترى الواجهات والرايات الفلسطينية ممزقة تائهة، وترى قوة الاحتلال تزحف إلى سوريا بعد لبنان.

وترى الأغنياء في هوجة، يضعون تريليونات الدولارات تحت أقدام مسيحهم المخلص دونالد ترامب، الذي يضحك في وجوههم، ولا يكاد اسم فلسطين يجري على لسانه، إلا من باب التندر والتأنيب، بينما يدعو حوارييه إلى نسيان أو تناسي القصة كلها، والتفرغ لسلام ورخاء موهوم، تأتي به الحماية والرعاية الأمريكية، التي قد تختلف مع حكومة بنيامين نتنياهو في تفاصيل تكتيكية عابرة، بينما تبقى عينها الأوسع ساهرة على دعم حركة التوسع الإسرائيلي إلى غير ما حدود، وترامب هو الذي قال مبكرا، إن مساحة هذه الإسرائيل صغيرة جدا، ولا بد من توسيعها، وإن المستقبل الأفضل للفلسطينيين في تهجيرهم إلى أوطان قريبة وبعيدة، وإن إسرائيل ارتكبت خطأ عمرها ـ زمن شارون ـ بترك غزة، المثالية في رأيه لبناء عقارات جميلة وريفيرا أجمل على شاطئ البحر المتوسط .
وقد تجري تسويات موقوتة، من نوع وقف إطلاق نار قصير المدى مقابل الإفراج عن بعض الرهائن الإسرائيليين، لكنها لا تحول أبدا دون تجدد حرب الإبادة في غزة، ولا دون زحف «عربات جدعون» ودبابات إسرائيل إلى إعادة احتلال غزة بكاملها، ولا دون عمليات الضم الفعلي في الضفة الغربية، ومن دون أي معارضة تذكر من ترامب، ولا من الإدارة الأمريكية اليهودية الصهيونية بالكامل، فقد يتضايق ترامب من عنجهية نتنياهو، وقد يرى أنه يتجاوز دوره المرسوم في اللعبة، ويتصور أنه صانع القرار الأصلي في مصالح ومستقبل إسرائيل.
بينما الدور الأعلى، يجب أن يظل محجوزا للرئيس الأمريكي وإدارته، التي هي حكومة إسرائيل في واشنطن، التي ينبغي لحكومة إسرائيل في تل أبيب، أن تنتظر منها الأوامر والتوجيهات والأضواء الخضر والحمر، وقد تلاحظ أن ترامب لم يذكر إسرائيل علنا بحرف لوم أو بشبهة غضب، ولا حتى ذكر نتنياهو القلق من تحركات ترامب وقراراته الأخيرة بصدد إيران واليمن، ونسب الحرب الوحشية في غزة إلى حماس وأخواتها من فصائل المقاومة الفلسطينية، وإن أشاد ببادرة حسن نية من حماس بإطلاقها سراح عيدان ألكسندر الجندي الإسرائيلي الأمريكي الجنسية، ربما على أمل أن تستمع حماس لباقي نصائحه، وأولها أن تنزع سلاحها بنفسها، وألا تكون عائقا أمام خطة تهجير ملايين الفلسطينيين من غزة.

والمعنى ببساطة، أن ترامب لم يكن يؤدي عملا مسرحيا متفقا عليه مع نتنياهو في الأيام والأسابيع الأخيرة، بل كان يتحرك في مساحات خلاف تكتيكي، ويريد أن يضع نتنياهو في مكانه تابعا لا آمرا، وفي سياق توافق استراتيجي أشمل، يعيد صياغة الاندماج الاستراتيجي بين أمريكا وإسرائيل، ويتيح له مقعد القيادة وحرية التصرف في الملفات المطروحة، حتى لو تأففت حكومة نتنياهو وبن غفير وسموتريتش، ولا يلزم نفسه بغير المصالح العليا لكيان الاحتلال نفسه، وفي كل المراحل الأمريكية، كانت تثور أحيانا خلافات تكتيكية بين الرؤساء الأمريكيين ورؤساء الوزارات في إسرائيل، وكانت تختتم دائما بتأكيد أولوية مصالح إسرائيل البقرة المقدسة، على نحو ما جرى مثلا، بين جورج بوش الأب وإسحق شامير عشية مباحثات مدريد، ثم بين باراك أوباما وبنيامين نتنياهو، وكان أوباما يضيق كثيرا بعجرفة نتنياهو، وبخطاب نتنياهو أمام الكونغرس الأمريكي، رفضا للاتفاق النووي الإيراني.
وعاقبه أوباما وقتها بامتناع عن التصويت في مجلس الأمن ضد قرار بإدانة الاستيطان الإسرائيلي، كان أوباما وقتها يودع عهده ذي الفترتين، ولا يطمع في رئاسة ثالثة، لا يسمح بها العرف الأمريكي، ورغم ذلك، لم يترك البيت الأبيض دون توقيع أمر بإتاحة 38 مليار دولار إضافية لتسليح الكيان وضمان تفوقه الإجمالي على الجيوش العربية كافة.
وبالجملة، وبالنظر الأوسع لمسرى التاريخ الجاري، فقد لا يصح أبدا تصور إمكان فك الصلة العضوية الوثقى بين أمريكا وإسرائيل، ولم يكن ذلك غائبا في أي وقت عن بال قادة التفكير وقادة الممارسة، وبالذات منذ توارى دور بريطانيا المؤسسة لكيان الاحتلال، ورفيقتها فرنسا المؤسسة للبرنامج النووي الإسرائيلي، وحلول الدور الأمريكي في مواجهة مد التحرر العربي القومي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كان المفكر القومي الناصري جمال حمدان، يربط فيما كتب بين زوال إسرائيل ونهاية الهيمنة الكونية الأمريكية، وكان جمال عبد الناصر بعد هزيمة 1967 بالذات، يقول دائما، إن إسرائيل هي أمريكا.
ومات واقفا على الجبهة الحربية في سياق ما سماه وقتها مرحلة إزالة آثار العدوان، وفي المحاضر السرية لاجتماعاته القيادية منذ عدوان 1967 حتى ساعة رحيله، كان عبد الناصر يصوغ من قلب المعاناة تصورا، أو خطة تاريخية لحلم تحرير فلسطين، كان العاجل فيها إزالة آثار عدوان 1967، بينما بلور الآجل في خطوط تاريخية عامة، كان العنصر الأول فيها، أن تواصل مصر بالذات تطورها الطفري في مجالات التنمية والتصنيع والاختراق التكنولوجي، وأن يجري ردم الفجوة بيننا وبين الغرب، الذي تعد إسرائيل قطعة منه، وأن تدمج خطط تصنيع السلاح المتطور وحتى القنابل الذرية، وكانت مصر وقعت بالأحرف الأولى على معاهدة منع الانتشار النووي في يناير 1968، ولم يكن التوقيع وقتها ملزما كونه بالأحرف الأولى.
وجاءت عبد الناصر وقتها تقارير عن صناعة إسرائيل لأول رأس ذري، ما دفعه لإعادة طرح تطوير مشروع مصر النووي الذي بدأ مبكرا، وفي المحضر السري لاجتماع مجلس الوزراء برئاسته في 13 نوفمبر 1968، قال عبد الناصر نصا، إزاي نمشي في الطاقة الذرية، بحيث نكون جاهزين في أي وقت، ونعمل reactor مفاعل بنفسنا علشان نطلع البلوتونيوم، نمشى في سكة نعتمد فيها على نفسنا، وتطرق عبد الناصر في الاجتماع نفسه إلى تفاصيل أخرى غير تخصيب اليورانيوم (نطلع البلوتونيوم)، من نوع الاعتماد على ما سماه المخابرات العلمية ونقل التصميمات في الصواريخ وغيرها، لم يكن يفكر فقط في المدى المباشر وتحرير سيناء وغيرها، بل كان يتطلع لما هو أبعد، ويدمج قضية التحرير النهائي لفلسطين في صلب عملية التقدم الطفري، علميا وصناعيا، ثم كانت رؤيته للمشهد الدولي ظاهرة في تصور الحروب الأخيرة لتحرير فلسطين، كان يقول بوضوح إننا لن نستطيع خوضها بنجاح، إلا حين تكون أمريكا متراجعة و»ملخومة» بالتعبير العامي، فقد كان ربطه مباشرا صعودا ونزولا بين نفوذ أمريكا الكوني ووجود كيان الاحتلال، وإضافة للعنصرين البارزين:
التقدم العلمي وتراجع نفوذ أمريكا الكوني، كان عبد الناصر يتحدث عن العنصر الثالث المطروح على الدوام، وهو المقاومة الفلسطينية والمقاطعة العربية لكيان الاحتلال، كان يقول عن المقاومة الفلسطينية، إنها ولدت لتبقى وسوف تبقى وتنتصر، وكان يعد المقاطعة ضرورة دائمة، ويعتبرها تطبيقا لنظرية «السنطة وشعرة ذيل الحصان» في الريف المصري، السنطة نتوء على سطح الجلد، وكانت الخبرة المصرية الشعبية في معالجته والتخلص منه، أن يجرى شد شعرة من ذيل الحصان حول السنطة، تحبس عنها الدم فتسقط من تلقاء ذاتها، وكان عبد الناصر يقول، إن هدف العدو هو إرغامنا على توقيع اتفاق صلح ومعاهدة سلام، وهو ما لن يحدث إلا حين تتغير وتسقط الأنظمة العربية المتحدية، وهو ما جرى تباعا بعد رحيل عبد الناصر، والانقلاب على اختياراته عقب حرب 1973، وإلى اليوم.

ذهب عصر عبد الناصر وصحبه، وجاء عصر الهوان العربي، والدفع لأمريكا لتدفع بدورها إلى إسرائيل، سقطت المقاطعة، لكن المقاومة بقيت وتطورت، وستبقى وتتطور رغم تبدلات الخرائط، وقد بتنا على عتبة عالم جديد متعدد الأقطاب، تتراجع فيه سطوة أمريكا الكونية، ويتجدد فيه أمل تحرير فلسطين، رغم المجازر والتجويع والإبادات، وربما لا تكمل إسرائيل عامها المئة احتلالا وتمكينا، وتلك قصة أخرى في حساب التاريخ، لا في هوان اللحظة وتفاصيلها المذلة.

المصدر: د. عبد الحليم قنديل/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى