“إسرائيل”.. وسياسة حافة الهاوية..!
“المدارنت”..
تُتابع “إسرائيل” منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول من العام المنصرم سياسةً إقليمية، أقل ما تُوصف به أنها سياسة حافة الهاوية، بمعنى المقامرة بوضع المنطقة والعالم على شفا حربٍ إقليمية واسعة النطاق، عن طريق العدوان الصريح والتصعيد الأقصى والانتقام الهائل والتنمر غير المسؤول تجاه الدول العربية والإقليمية.
وهذه السياسة لها سابقة في الخبرة الدولية، عندما مارستها الولايات المتحدة تجاه الصين والاتحاد السوفييتي السابق في منتصف الخمسينات من القرن المنصرم، وكان عرّابها وزير الخارجية جون فوستر دالاس في إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور (1953- 1961). بيد أنّ سياسة حافة الهاوية، التي كادت تورِّط العالم في حربٍ نووية ثالثة ومواجهةٍ عسكرية بين الولايات المتحدة والصين وورطّت واشنطن بالفعل لسنوات في مستنقع فيتنام، لم تتمكن من تحقيق الأهداف الأمريكية في الحرب الباردة بقدر ما فعلت سياسات مغايرة تبنتها الإدارات اللاحقة، ولاسيما سياسة التقارب أو الوفاق في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون (1969-1974).
وتتمثل أهم مظاهر سياسة حافة الهاويّة الإسرائيلية في حرب الإبادة الجماعية التي تشنها حكومة اليمين المتطرف بزعامة بنيامين نتنياهو ضد الفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية، والعدوان العسكري والسيبراني على لبنان، وتبادل الضربات الجوية والصاروخية مع إيران، ومواصلة سياسة الاغتيالات للقيادات والكوادر الفلسطينية واللبنانية والإيرانية، والتحرش السياسي بمصر وتركيا.
وقد أودى العدوان الإسرائيلي المتواصل على قطاع غزة والضفة الغربية بحياة أكثر من 42 ألف فلسطيني، وإصابة أضعاف هذا الرقم بجروحٍ متنوعة، وتدمير القطاع المنكوب بمؤسساته وبنيته التحتية ومساكنه ومدارسه ومستشفياته. وأدت الغارات الإسرائيلية على لبنان، التي وصفت بعضها بأنها أكثر الغارات كثافة بتاريخ الحروب، إلى سقوط المئات بين القتلى والجرحى، فضلاً عن آلاف النازحين وضحايا انفجارات البيجر واللاسلكي. دون الحديث عمّا أفضت إليه اعتداءات دولة الاحتلال، التي لا يردعها رادع من شِرعة دولية أو مواثيق قانونية، أو إدانة عربية وعالمية، على اليمن وسوريا من تدميرٍ وقتل، أصبح مرادفاً للسلوك الخارجي الإسرائيلي.
والآن، ما هي التداعيات «الخطيرة» أو «الجسيمة» لسياسة حافة الهاوية الإسرائيلية؟ تُقامر إسرائيل بإغراق المنطقة في صراعٍ شامل، قد يمتد إلى عقود، وسوف يتخذ طابعاً قومياً ودينياً، لن ينجو منه أحد من مجتمعات المنطقة ودولها.
والواقع أنّ عقيدة الاستهتار الإسرائيلية بردود الأفعال الشعبية والرسمية العربية والإسلامية على عدوانها المتواصل في فلسطين ولبنان وسوريّا، لا يسندها أي دليلٍ، وإنما يدعهما ويضخمها غرور القوة، ويدفعها الخوف المرضي من إمكانية استمرار الدولة الصهيونية في المستقبل أو هوس البقاء. والحق أنّ سياسة حافة الهاويّة الإسرائيلية تختلف عن نظيرتها الأمريكية في فترة الحرب الباردة، في أنّ الأخيرة كانت مخططة ومنضبطة وتملك بديلاً، يتيح لها التراجع عن السقوط في هاوية الحرب الشاملة النووية.
أمّا السياسة الإسرائيلية، فقد أثبتت الوقائع، منذ نحو عام تقريباً، بأنها غير مخطط لها، بدليل الاختلافات والجدل عليها بين السياسيين والعسكريين، ومقامرة لا تستطيع ضبط مسار الهجوم والعدوان أو تتحكم في نتائجه، فضلاً عن توقعها، ولا تملك بديلاً للتراجع إن ثبت عدم جدواها، بدليل أنها ما فتئت تفتح جبهات جديدة للقتال من دون أن تُسكن الجبهات الأخرى، وتضيف أهدافاً جديدة للعدوان من دون أن تنجح في تحقيق الأهداف السابقة. كما يخاطر نتنياهو، كما حذّره أكثر من صوتٍ من اليمين واليسار الإسرائيلي، من مستقبل وجود إسرائيل نفسها على خريطة الشرق الأوسط.
ولنتذكر، في هذا الخصوص، شيوع «لعنة العقد الثامن»، التي تُهدد بزوال دولة إسرائيل، في أوساط الإسرائيليين، من متدينين وعلمانيين، ويسار ويمين، ونخبة وجماهير. ولعل من التداعيات التي تُخلفها السياسات العدوانية الإسرائيلية، والتأييد الأمريكي الدائم لها، هي تنامي ظاهرة الإرهاب والعنف في المنطقة، التي قد تطول الولايات المتحدة والدول الغربية نفسها. ولعل ذلك هو درس التاريخ في أحداث 11 سبتمبر 2001، برغم إدانتنا لها كونها هجمات إرهابية أهلكت آلاف المدنيين، وأفضت إلى نتائج كارثية على مستوى المنطقة والعالم.
وبرغم التحذيرات من تداعيات وعواقب سياسة حافة الهاوية الإسرائيلية، من الداخل والخارج ومن الحلفاء والخصوم على السواء، يمضي نتنياهو في متابعة سياسته، واثقاً من الدعم والإسناد الأمريكي اللامحدود وغيرها من الدول الغربية. ولا نجد دولة في تاريخ العالم الحديث والمعاصر والقديم، على السواء، مثل إسرائيل، تُمعن في القتل والتدمير اليومي، وترتكب جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب المختلفة ليل نهار، وتبني أسواراً من الكراهية والعداء والنار حولها، وتُراكم الأعداء يوماً بعد يوم، وتُنفر منها حتى الأصدقاء والحلفاء.
ولئن زعم القارئ أنّ ألمانيا النازية أو إيطاليا الفاشية أو اليابان الإمبراطورية كانت تفعل الأشياء نفسها، وتسلك السلوكيات عينها، وكانت نخبتها تُقامر وتُخاطر باستراتيجيات الحد الأقصى، فإنّني، مع كل الاحترام، اختلف معه. فمن الصحيح أنّ هذه الدول قدّمت سوابق لما تقوم به دولة الاحتلال حالياً، وقبل ذلك، تجاه العرب والفلسطينيين، فإنّ الخبرة الإسرائيلية تبدو وكأنها فريدة، حيث تواصل سياستها وهي آمنة من أي رادعٍ أو انتقام أو حلفٍ يتشكل لوقف عدوانها، أو حتى ردود أفعال دولية غاضبة أو منددة!