تربية وثقافة

إسـمــع يــا غــدي..

عمر سعيد/ لبنان

خاص “المدارنت”..

كانت قريتنا بضع غرف، لا بيوت.. وكانت أزقتها مدعس قدم، لا شوارع.. وإذا مرّ فيها الحمار، وفوق ظهره روّاية الماء يخترقها حشراً.. لكنها كانت وطناً يا ولدي..

كانت عين القرية تروي قريتنا وجوارها، وكل المحاور المصطفة على مسيلها.. وكان المسيل يضج بخشخشة أوراق الحور والذرة ودوار الشمس، وكانت جِدالات العصافير فوق أغصانها؛ لا تنتهي إلا إذا حلّ المساء بقمره، ونجومه، التي تثقب ثوب كوكبنا الأسود بلمعانها الصغير..

كبرت قريتنا، واتسعت أزقتها لتفحيط سيارات أبناء جيلك.. وانطفأت قناديل الغرف إلى الأبد، بعد أن ابتلعتها أنوار الكهرباء، التي تسري عبر شرايين أسلاك تكاد تحجب عنا سماء الوطن..

واختفت أشجار الحور، فقد قطعها البعض، وحولوها إلى سلالم، يصعدونها، لفحص مقدار الماء في خزاناتهم فوق الأسطح الإسمنتية..

وانقطع بث العصافير، الذي لم يكن يتوقف إلا إذا القمتها أيدينا الصغيرة حجراً، في لب الحورة العالي.

وصار دوار الشمس عند محمصة الداعوق والسمير وغيرها، بطعمات مالحة وحامضة وبطعمة “بربك يو”، يتوسط الجلسات، ويتراكم قشرا في المنافض، حتى أن معلمي التربية الفنية في المدارس نسوا شكله وألوانه، لأنهم ما عادوا يرسمونه للأطفال.

أما العرنوس، فما عدت أراه إلا بخاراً، يخرج من طنجرة أبو ديبو، التي تتوسط بسطته الجوالة بين الأحياء..

وصار نهيق الحمير نادراً، نشتاق إلى أنكره بعد أن خلت منه البواكي.. حتى صرنا نلتقط مع الحمار سلفي، وقد بدا وسيماً بعد طول غياب..

يا غدي، في طفولتنا، كان القمل أخطر الأمراض التي غزتنا، غير أن لقاحه كان بسيطاً وجداً: مسحة ديمول مخفف بالماء، أو مسحة زيت كاز..

كنا نشرب من أجران الحجر والحنفيات الصفراء، وقد أطبقنا عليها شفاهنا، وما كنا نعرف الكمامات.. وكنا نغسل أكفنا مرات كثيرة بعد التوسخ بالتراب، ونمسح غبارها بسراويلنا المبقّعة بدوائر الزيت..

كانت أمي تكنس البيت بمكنسة البلان، وتجلي الأواني بالصفوة.. ونادراً ما كنا نأكل الخضار أو الفاكهة مغسولة.. وما سمعت قريتي كلها باسم الديتول.. كان الدوا الأحمر والمرهم الأسود علاج كل جرح.

كنا نبيت نحن والجدايا والبقرة والحمار والدجاج معاً، طوال أشهر الصيف.. وما كنا نعاني إلا من خدش أو وقعة عن صخرة أو جلّ..

كان الخبز في غرفتنا شوالات من القمح والطحين، والبندورة أجباباً في حديقة الدار، والزيت بالتنكة، والماء جراراً، وكانت وسائدنا من الرُويشة..

كبرنا وتعلمنا، أن نغسل أيدينا قبل الطعام وبعده، وصرنا ننظف أسناننا صبحا ومساء، ونستحم كل يوم.

اكتشفنا روائح ذكية كثيرة، غير أننا تركنا هناك في طفولتنا القذرة، كل روائح الحياة، التي كانت تجعلنا لا نتوقف عن اللعب والضحك والحب، إلا إذا أنهكنا النعاس..

اليوم، وأنا اراكم تختبئون من الكورونا، وكثير من الأمراض، خلف كريمات التعقيم واقنعة الوقاية، وقد قطعت بدونها خمسين سنة، أشفق عليكم في الأيام القادمة.. فقد غدا الماء يباع بالسلّي ليتر.. والبندورة بالحبة، والخبز بالرغيف، والزيت بالقنينة.. والأخطر من كل ذلك، أن المصافحة باتت خطراً يحمل معه الموت..

تخيل يا غدي، صارت كفّ أمك التي كانت تطعمك صغيراً، تهددك بالعدوى..

كل ما أرجوه يا ولدي، ألّا تتحول تلك الأكفّ التي حمّمتك وألبستك ولاعبتك، وكل تلك الشفاه التي بوّست شعرك وكفيك وخديك وجسدك العاري طفلاً، إلى مسببات لقتلك، وقتل أمانيك وأحلامك.

=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=-=

معاني مفردات:
الرواية = كيس مطاط اسود لنقل الماء .
المحاور ج محورة = قطعة ارض زراعية مروية
البلّان = نبات شوكي جبلي
الصفوة = رماد نار الحطب
البواكي = جمع باكية وهي بيت الحمار
الجلّ = واحد من مدرجات الارض عند سفح الجبل
الرُويشة = قشر البرغل.

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى