إعادة قراءة التاريخ.. “طائفيًا”.!
خاص موقعيّ “المدارنت” و”ملتقى العروبيّين”
.. مع بداية شهر نوفمبر/ تشرين ثاني من عام 1987، التحقت بكلية المدفعية لتأدية خدمة العلم الإلزامية، وذهني مثقل بمجريات الصراع بين السلطة و”الأخوان المسلمين”، الذي امتد لسنوات وطال في عنفه وأثاره المجتمع كله، بما في ذلك حادثة المدفعية الشهيرة في حزيران 1979.
الدرس الأول الذي تلقيناه في “التوجيه السياسي” (هو أول الدروس وقبل أي درس عسكري) كان موضوعه: الحادثة المشؤومة، إياها، ومنفذها، النقيب إبراهيم اليوسف، و”عصابة” الاخوان المسلمين، مع وجود “وسائل إيضاح” لأثار فعلته بادية للعيان، حتى ذلك الوقت، على جدران “الندوة” التي تتحدث عن نفسها بما فيها من ثقوب وآثار طلقات الكلاشنكوف وبقع دم غطت على اللون الأصل للحيطان…!
لم يشأ القائمون على شؤون الكلية إزالة تلك الآثار، (حتما بتوجيهات من السلطات العليا) ليظل الملتحقون الجدد يرونها دفعة بعد دفعة، سواء أكانوا ضباط أو صف ضباط، من المجندين أو المتطوعين، لإحاطة الجميع بجو من الرهاب النفسي لا يفارقهم أينما تحركوا أو اتجهوا، لإبقاء جذوة الصراع متقدة، ربما، وتعبيرا عن حقد وكراهية وبدوافع طائفية ومذهبية لا يدخرون جهدا في شحنها وتأجيجها.!
شكلت الحادثة، تلك، في حينها، منعطفا خطيرا في مجريات الصراع، وأجمعت كافة القوى السياسية المعارضة على ادانتها وتجريمها، بما في ذلك “الاخوان المسلمون”، ويتبرأوا منها ومن ابراهيم اليوسف نفسه، قبل أن يستعاد اسم النقيب، اليوم، مع معركة تحرير كلية المدفعية، ويفتح نقاش عميق عن دلالات التسمية ومقاصدها.!
أعتقد أن اختيار التسمية صادر عن جهة تعرف ما تريد جيدا، وأحسنت اختيار اللحظة المناسبة لإعادة تركيب الوقائع والأحداث، وهي هنا باختصار تريد “اعادة الاعتبار” للرجل والحادثة، وتضعهما في سياق الوعي الجمعي لعموم الشعب السوري كجزء من نضاله المديد، الذي لم يتوقف، وله في ذلك “رموزه” و”أبطاله”.
المشكلة، والخلاف الذي وقع ينطلق أصحابه من موقعين مختلفين لكل منهم رؤيته للحاضر والمستقبل، ولكل طرف قيمه ومفاهيمه.!
لكل من الطرفين تعريفه للمجتمع والدولة وكل منهما يعمل على تحقيق سوريا التي تشبهه، فطرف يراها بكافة مكوناتها وفئاتها، وينظر للإنسان بعيدا عن توصيفه العرقي والديني، وان كان لا يغفل عن انقسامات المجتمعات على أساس قومي أو ديني، وآخر يرى المجتمع والفرد على أساس معتقده ودينه ومذهبه، ويصنف المجتمعات والدول وفق هذه النظرة.!
منذ البداية عملت بعض الأطراف على توجيه الأحداث والوقائع وفق رؤيا خصوصا بعد أن امتلكت القوة وأصبحت صاحبة القول الفصل بدعم اقليمي وعربي، ترافق ذلك مع التحولات باتجاه “الأسلمة” ومن ثم “التطيف” لجعلها “سنية” خالصة وجاهد لتكون له وحده كافة حقوق “الملكية” ضمن منهج لا يعترف ب”الاخر” ولا يبحث عن صيغ وطنية جامعة، مع احجام وتردد لدى عموم الأقليات ازاء ذلك.
من اختار ان يطلق اسم ابراهيم اليوسف على العملية لم يفكر باعتراضات “بعض” أهل الثورة من الوطنيين والعلمانيين، أو غيرهم، وهو يرى فيهم وجها آخر للنظام، كل ما كان يريد ايصاله لطائفة النظام ومسانديه: أنه على ذات النهج سائر وماض، وهي تسمية تدغدغ مشاعر الكثيرين من أهل الثورة “السنية” وتشبع غرائزهم المتعطشة للقصاص والانتقام.!
يحتمل التاريخ قراءات متعددة، وتأويلات مختلفة، وحصل أن أعيد الاعتبار لشخصيات، همشت أو جرمت، لتأخذ فيما بعد مكانتها التي تستحق، سواء أكان ذلك بالسياسة أو الأدب أو الاجتماع والثقافة عموما، ولكن هذا لا يحصل الا في سياقات وطنية عامة وفي ظروف يراد منها تعزيز الوحدة الوطنية وازالة العقبات أمام كل ما يفرق ويشتت في بنية المجتمع وبين مكوناته، وبمعنى آخر، يتم ذلك في أجواء المصالحات الوطنية الكبرى التي تترافق مع العدالة الانتقالية، أو الانصاف والحق.
كشف النقاش الذي دار في مواقع مختلفة عمق الهوة بين السوريين التي تسبب بها الاستبداد والطائفية، وافرازاتهما، وحاجتهم للحوار والاتفاق على مستقبلهم بعيدا عن ما يفرقهم ويساعد على تقسيم وطنهم الذي تزداد المؤشرات على رسم خرائطه الجديدة بدم أبنائه من المكونات كافة، وفق شرق أوسط جديد، بشرونا به منذ سنوات طويلة.!
كان يمكن تجنب كل هذا الخلاف في معركة كبرى ومصيرية بأهمية معركة حلب، لو أن القائمين على الآمر شغلهم الحاضر وعينهم على المستقبل، وفي مفكرة الثورة ورموزها وأبطالها ما يساعد على تجنب الخوض في مثل هذه القضايا.
جاءت التسمية الخلافية بعد آن أعلنت “جبهة النصرة”، فك ارتباطها بـ”تنظيم القاعدة” العالمي، قبيل البدء بمعركة حلب، واتخذت لنفسها اسما جديدا: “جيش فتح الشام”، الآمر الذي خيب آمال من أحسنوا الظن بتلك الخطوة، واعتبروها تحولا كبيرا يمهد لاندماجها في المشروع الوطني الجامع، ما يؤكد آنها والقوى المتحالفة معها لها مشروعها الخاص وأجندتها المستقلة، وهي عماد القوى المحررة والمقاتلة على جبهات حلب الساعية لفك الحصار عن المدينة وتغيير المعادلات فيها، وموازين قوى الصراع.
الثورة السورية في منطلقاتها الأصلية وأهدافها التي عبرت عنها على مدى شهور السنة الاولى، أو أكثر، كانت واضحة لجهة شعاراتها الجامعة والوطنية بامتياز والساعية لدولة مواطنة عابرة للطوائف والمذاهب، وحريصة على كل مكوناتها، وفق الشرعة الدولية لحقوق الانسان، وبعيدة عن اثارة حساسيات التاريخ القاتلة التي لا تبقي وطنا ولا مواطنين.
كشفت هذه “الجزئية” عن عميق الخلاف بين اتجاهين وتفكيرين وفريقين أمامهم الكثير من “المعارك” في المستقبل حول أي سوريت نريد، وأي سوريا “تشبهنا”.!
عندما عدت في ذاكرتي الى خريف 1987 وتذكرت الدرس الأول في كلية المدفعية ووجه ذلك الضابط الطائفي ووجوه أصحاب من يشبهونهم اليوم، وبالأمس، أدركت كم هو صعب وشاق طريقنا نحو سوريا التي تشبهنا، ولا تشبههم. سوريا التعدد والتنوع بألوان قوس قزح، سوريا المواطنة والقانون، المتصالحة مع ذاتها وتاريخها من دون قتلة ومجرمين.