إنتهازية وفساد..!

خاص “المدارنت”
منذ تأسيس “دولة لبنان الكبير” على أيدي “الإنتداب” الفرنسي، قبل ما يزيد عن قرن كامل؛ ويحكمها نظام للمحاصصة الطائفية يتمتع بمواصفات عديدة يأتي في طليعتها:
1 – التبعية للأجنبي صاحب النفوذ الأقوى..
2 – الفساد المالي والإداري والسياسي..
3 – العشوائية وعدم االتخطيط..
4 – إختيار السلطة التنفيذية بتوجيه ورأي قوى النفوذ الأجنبي الفاعلة، ومنها معروف وبعضها سري غير معروف إلا للقلة..
5 – الديمقراطية الشكلية التي تبيح الكلام – بحدود – مع منع أية إمكانية للفعل..
(الفترة الوحيدة التي عرفت توجهات مختلفة إلى حد كبير كانت فترة حكم الرئيس اللواء فؤاد شهاب في خمسينات وستينات القرن العشرين)..
وقد تكرست في السلطة قوى سياسية وإقتصادية إكتسبت خبرات وأنشأت مصالح وبنت شبكات من العلائق المتداخلة؛ بما يضمن لها بقاءها وإستمرارها في السلطة وما يتبعها من إمتيازات..أصبحت هي ذاتها – بمرور الوقت – صاحبة ومالكة ومسيرة وراعية نظام المحاصصة الطائفية والمذهبية وما فيه من فساد شامل..
ولأنها تمتلك سلطة القانون والتشريع والقضاء والأمن والعقاب وتغطية النفوذ الأجنبي الفعال جدا، فقد إستطاعت التحكم بمفاصل القوة اللبنانية وبأركانها الإجتماعية والتلاعب بمقدرات لبنان الدولة والوطن والشعب لإحكام سيطرتها ومنع قيام أية قوة وطنية لبنانية عابرة للطوائف وعابرة للمذاهب؛ يمكن أن تهدد مصالحها ودوام بقائها ..
وإنتهجت لذلك كل أساليب الإغراء والفتنة والتحريض والتلاعب بعقول الناس ونفوسهم ووعيهم ومصالحهم؛ حتى بات المواطن اللبناني مجبرا على إتباع الأساليب التي تحددها ممارسات أطراف السلطة ذاتها ووفق ما تقتضيه مصالحها هي. وهكذا تكرست أشكال إنقسام المجتمع إلى طوائف دينية ومذاهب داخل كل طائفة وتحولت المؤسسات الدينية إلى تبع للنظام الطائفي، وراحت تكرس الإنقسام وتحوله من إنقسام على مستوى السلطة والسياسة إلى إنقسام على مستوى المجتمع في كل مستوياته..
وهكذا تكرست جرثومة العصبيات الطائفية والمذهبية في وعي وسلوك الغالبية الساحقة من اللبنانيين، وإذا إضيفت إليها ألأساليب الملتوية – الفاسدة – في التعاطي مع شؤون المواطنين وإحتياجاتهم ومعاملاتهم؛ يكون الفساد قد أصبح سمة أساسية ملازمة للعقل اللبناني – عموما – وجزءا مهما من وعيه ومن سلوكه اليومي..
وهكذا إستطاع نظام المحاصصة الطائفي الفاسد، تعاونه مؤسسات دينية تابعة له ومرتهنة لمصالحها الفئوية؛ نشر وتعميم الفساد على السلوك العام رغما عن إرادة قلة من اللبنانيين لا يزالون يعاندونه ويحاولون حماية أنفسهم من تداعياته وآثاره..
ولقد بلغ من تأثير الفكر الطائفي الفاسد ؛ أن صادر إرادة اللبنانيين عامة، ليس فيما يتعلق بوعيهم الوطني ومعرفتهم بمقومات هويتهم الوطنية فقط؛ بل تعدى ذلك ألى مصادرة قدرتهم على الدفاع عن أنفسهم ؛ ليس كشعب أو كجماعة وطنية ذات مصير واحد؛ بل حتى كأفراد لهم مصالحهم الخاصة والشخصية، أبلغ مثال على إستلاب وعي وإرادة الشعب اللبناني من قبل نظام المحاصصة الطائفي الفاسد؛ كان سكوتهم التام عن سرقة مدخراتهم الشخصية في “البنوك”، دونما أدنى ردة فعل من قبلهم، سلموا وإستسلموا وكأنها قضاء وقدر وكأنهم غير معنيين بما حصل لهم سوى الإنتظار، (في الوقت الذي يتناطح اللبنانيون على أفضلية المرور أو أسبقية االعبور ولو بالقوة المسلحة) عجز كامل عن إتخاذ أي موقف دفاعا عن الحق الشخصي فكيف يكون الحال مع الحق العام وحق الوطن ؟!..
كان العامل الأبرز في مثل هذا الخنوع لإرادة أفاقي البنوك وشركائهم في نظام المحاصصة؛ ذلك العقل الطائفي المذهبي الذي لم يعد يستطيع رؤية أي أمر أو معالجة أيّ مشكلة؛ إلا من خلال الإنتماء الطائفي أو المذهبي وما فيه من إرتهانات وحسابات مصلحية فئوية وشخصية وحزبية..
وقد بلغ الإنحدار في العقل اللبناني أنه بات – راغبا أو مرغما – يستخدم ذات أساليب أطراف النظام الفاسد حينما يحتاج إلى مصلحة خاصة أو منصب وضيع أو وظيفة عابرة، كما أنه يلجأ إلى النظام – أو أحد أطرافه تبعا لهويته الطائفية – ذاته يستعين به ليصل إلى هدفه الشخصي أو مصلحته الآنية، حتى بات المواطن نفسه شريكا في الفساد راضيا به مستفيدا منه..
وهكذا تكرست إنتهازية مرموقة لدى الغالبية الساحقة من الظاهرين الناشطين في ميادين السياسة والعمل العام، إنتهازية تتلازم مع نفاق وتزلف وتفاهة وكذب وغرور مع إدعاء العكس في كل مرة..
بات اللبناني يشتكي ويتذمر من فساد النظام ومن معاناته الشديدة من أساليبه ومن مضمونه البغيض والمخادع؛ ثم يستعين به ويلجأ إليه ويستخدم أساليبه ذاتها للوصول وتحقيق هدفه الشخصي..
وقد مثلت هذه الظاهرة – إلى جانب ظواهر أخرى كثيرة في السلوك اللبناني – حالة مرضية مزمنة باتت تحتاج معالجات عميقة لمحاصرتها وتقييد آثارها السلبية..
لا شك أن أطراف نظام المحاصصة يشجعون بقاء كل مظاهر الفساد في السلوك اللبناني لأنها هي الباعث عليه والمستفيد منه، ولذلك تعمل بشتى الوسائل لإجهاض أي تغيير على أي مستوى أو في أي مجال، ولقد بينت الإنتخابات البلدية الأخيرية كيف أن مصالح أطراف نظام المحاصصة تتكامل وتتناغم رغم ما يبدو للظاهر من إختلافات بينها وإتهامات متبادلة من كل نوع، يسندون بعضهم ويغيثون ضعيفهم وينقذون متعثرهم ويتنافسون حين يطمئنون إلى غياب البدائل.
كما بينت مدى الإستلاب في وعي المواطن وإستغراقه العميق في مستنقع الفساد الذي صنعه له النظام ويجبره على البقاء فيه، حتى ساد أسلوب نظام المحاصصة على نهج الترشيح والإختيار والإنتخاب، فمارس اللبنانيون – في معظمهم – حقهم الظاهر في الإختيار بحرية؛ فيما هم يختارون وفق ما يرسمه و يمليه ويفرضه نظام المحاصصة وما يملك من نفوذ وسلطة وإمكانيات، وكأن هناك نوع من الإرتباط النفسي بين المواطن وبين طبيعة النظام ذاته، وعلى الرغم من الآمال العريضة التي يعلقها اللبنانيون على رأس العهد الجديد وفقا لخطاب قسم الرئيس (اللبناني) جوزف عون، إلا أن تجذر قوى النظام في الدولة وتجذر عقلها الإنتهازي في سلوك الكثيرين؛ مكنها من إعادة إنتاج ذواتها كصاحبة النفوذ الأقوى والإمتداد الأوسع..
فكانت صورة عن النظام، حين باءت جهود التغيير بالفشل..
النظام الطائفي هو أساس ومصدر وحامي الفساد بأشكاله المتنوعة..