إيران تأمر “ميليشياتها” في العراق بنزع أسلحتها!
“المدارنت”..
تجري في العراق منذ بضعة أسابيع، نقاشات صعبة حول مكانة “المليشيات الشيعية” المؤيدة لإيران، وتنظيم “الحشد الشعبي” كله. في تقرير حصري لـ“رويترز”، أمس، ورد أن بعض المليشيات الشيعية على استعداد لنزع جزء من سلاحها، وربما كلّه، وأنها حصلت على “الإذن” من الزعيم الأعلى في إيران (السيد) علي خامنئي.
لن نحبس الأنفاس، وثمة إشارة “في” كبيرة بشأن حملة أخرى ناجحة للتهديد الأمريكي على إيران. إن نزع سلاح هذه المليشيات حتى لو تحقق، لا يعني غيابها عن الساحة في العراق أو تقليص تدخل وتأثير إيران في الدولة التي هي برعايتها.
لكنها إشارة واضحة على التفكير الجديد الذي اضطرت إيران لقيام به أمام الضربات التي تعرضت لها “حلقة النار” التابعة لها، بدءاً بلبنان، ومروراً بسقوط نظام الأسد في سوريا، وانتهاء بالحوثيين الذين ما يزالوا يطلقون الصواريخ حتى الآن رغم الهجمات الأمريكية الواسعة.
“الحشد الشعبي”، الذي دمج في الجيش العراقي إلى جانب تفكيك المليشيات المؤيدة لإيران، تشكل في 2014 بتعليمات شرعية من الزعيم الشيعي الأعلى في العراق علي السيستاني، من أجل محاربة “داعش” الذي سيطر على عدد من المحافظـات في العـراق.
كان هذا تنظيماً ضم في ذروته 70 مليشيا، وهو الآن نصف هذا الرقم. بعضها ممول ومدرب بشكل مباشر من قبل إيران، وبعضها موال للسيستاني، وبعض آخر يعمل كذراع عسكري لحركات وأحزاب شيعية في العراق التي لا تعتبر إيران بالضرورة مصدر الصلاحية السياسية أو الدينية.
ست مليشيات كبيرة توحدت في تنظيم باسم “المقاومة الإسلامية في العراق”، وهي التي نفذت معظم الهجمات ضد الأهداف والقواعد الأمريكية في العراق وسوريا، وضد إسرائيل في فترة الحرب في قطاع غزة. ولكن يوجد فيما بينها فجوة واختلاف في كل ما يتعلق بالاستعداد للعمل عسكرياً في إطار “حلقة النار”.
حتى إن البعض منها امتنعت كلياً عن اتخاذ خطوات عسكرية ضد أمريكا أو إسرائيل، واكتفى ببيانات إدانة أو التعبير عن التضامن مع الفلسطينيين. هذه الفجوات تنبع من المكانة الخاصة التي حصلت عليها هذه المليشيات، اقتصادياً وسياسياً، في العراق. وهي المكانة التي تمنحها قوة ونفوذ أكثر بكثير من إطار الأهداف العسكرية الأصلية التي أنشأتها.
حسب القانون من العام 2016، تعتبر المليشيات جزءاً من القوات العسكرية العراقية، لكنها تعمل بشكل مستقل ولا تخضع للقيادة العسكرية العراقية، بل لقائدها فالح الفياض، الذي يقودها منذ بداية إقامتها. تحصل على التمويل من ميزانية وزارة الدفاع، ويقدر نصيبها بثلاثة مليارات دولار في السنة، وهو يخضع لعدد المجندين المسجلين فيها.
هنا يكمن الإخفاق الأساسي في الرقابة على وإدارة “الحشد”، فقد حصلت زيادة خيالية في عدد المجندين المسجلين على مر السنين، حيث قفز في 120 ألف مجند في 2019 إلى 220 ألف في السنة الماضية.
لكن الكثير من المجندين “جنود أشباح”، غير موجودين في الواقع، وتستخدم أسماؤهم للحصول على الميزانية. بشكل منفصل، بعض هذه المليشيات أقامت إمبراطوريات اقتصادية تتضمن مشاريع عقارية، والسيطرة على آبار لإنتاج النفط، وإدارة بنوك مستقلة، وفرض رسوم وضرائب عبور، والسيطرة على المعابر الحدودية، التي يجب رجالها الجمارك التي بالطبع لا ترسل إلى خزينة الدولة.
حسب تقرير مراقب الحكومة في العراق، فإن 10 – 12 في المئة فقط من الجمارك التي تجبى في المعابر، تصل إلى وزارة المالية في الدولة، أما الباقي فيذهب إلى جيوب المليشيات.
الاحتكاك العنيف بين هذه المليشيات والشعب في العراق، وسلوكها العنيف في بعض الأحداث كما حدث -مثلاً- أثناء تفريق المظاهرات الكبيرة في 2019، جعلتها هدفاً للانتقاد العام والسياسي قبل فترة طويلة من التهديد الأمريكي لها وللعراق. تسمع في وسائل الإعلام منذ سنوات دعوات لتفكيكها، وإبعاد نفوذ إيران.
في شباط الماضي، على خلفية استبدال الإدارة في واشنطن التي وصل معها التهديد الأمريكي، صادقت حكومة السوداني على “قانون الحشد الشعبي – الخدمة والانسحاب”، الذي ينص على ترتيب مكانة المليشيات وخضوعها للدولة. حسب مسودة هذا القانون الذي تم الدفع به قدماً، سيدير “الحشد” رئيس بمستوى وزير في الحكومة، وستكون نشاطات الأحزاب فيه خاضعة لتوجيه ومصادقة رئيس أركان الجيش العراقي، وستكون هذه التنظيمات التابعة للحشد مسؤولة عن “حماية الوطن ومؤسساته والديمقراطية”.
هذا الإطار قد يقيم لنفسه أكاديمية عسكرية تكون لها هيئة أركان عسكرية، لكن ستنقل الرقابة والإشراف على منظومة أموالها إلى مراقب الحكومة. ولكن بعد فترة قصيرة من المصادقة على القانون في الحكومة، قرر السوداني إلغاءه بسبب خلافات سياسية شديدة أثارها القانون، وتم إفشال احتمالية المصادقة عليه في البرلمان.
بعد ضغط آخر لأمريكا، تم مؤخراً وضع القانون على طاولة البرلمان، في 25 آذار الماضي، لمناقشة أولية، التي لم تثمر حتى الآن عن أي قرار. وربما يمر برحلة طويلة ومضنية، يتم فيها قضم بنوده إلى أن يصل للتصويت والمصادقة عليه في البرلمان، هذا إذا تحقق ذلك.
في نهاية السنة، يتوقع إجراء انتخابات. والآن، يصعب وصف أي سيناريو تتنازل فيه الأحزاب الشيعية التي لبعضها مليشيات عضوة في “الحشد”، عن القوة السياسية التي قد تقدمها لها هذه المليشيات. القانون في الحقيقة يحظر على الأحزاب التي لها “ذراع عسكري” التنافس في الانتخابات. ولكنه قانون مرن، وطرق الالتفاف عليه مفتوحة ومعروفة.
حتى لو وافق رؤساء المليشيات على نزع سلاحها والاندماج في الجيش العراقي، فستنطوي هذه العملية على مفاوضات قاسية حول التعويض الذي ستطالب به مقابل هذه التنازلات. تمويل استيعاب رجالها في الجيش ومكافآت تقاعد سخية للذين لا يمكن استيعابهم في الجيش، لا سيما القادة القدامى الذين سيضطرون إلى الاستقالة، ستكون كما يبدو الجزء السهل في هذه العملية، أو عملية دمجها في المنظومة العسكرية.
سيكون الأعقد من ذلك، الموافقة على الطلبات السياسية التي ستطرحها، مثل الشراكة في الوزارات الحكومية، وتخصيص أماكن مضمونة في الانتخابات للبرلمان ووظائف تمكنها من السيطرة على الميزانيات، التي ستمكنها من التأثير على اتخاذ القرارات السياسية. ولن تضمن هذه المليشيات مكانتها فحسب، بل استمرار نفوذ إيران في المؤسسة العراقية واقتصاد الدولة، التي تعتمد الآن على مصادر الطاقة والمياه من إيران. في المقابل، دمج المليشيات في الجيش العراقي ووضعها تحت قيادة الحكومة العراقية، حتى ولو اسمياً، ربما يكون ثورة في تاريخ العراق بعد نظام صدام حسين، ومنح الحكومة العراقية السيطرة الحصرية على القوات المسلحة الموجودة فيها، باستثناء قوات البيشمركة الكردية في إقليم الحكم الذاتي في شمال العراق.
من ناحية الولايات المتحدة، ستصبح الحكومة في العراق العنوان لأي طلب أو تعاون، حيث تكون متحررة من التهديد العسكري الداخلي من المليشيات التي تشغلها إيران. ولكن هذا طموحاً نظرياً وسيصعب تطبيقه، حتى لو تم نزع سلاح المليشيات، بدون قطع اعتمادها الاقتصادي على إيران، الذي يملي أيضاً سياسة الحكومات في العراق.
وثمة أهمية استراتيجية أخرى لهذه الخطوة إذا تمكنت الحكومة اللبنانية، في أعقابها أو في موازاتها، من نزع سلاح حزب الله، ويطبق نظام احمد الشرع حلمه في دمج جميع المليشيات المستقلة في سوريا في إطار عسكري وطني. هذه هي الخطة الاستراتيجية التي يرسمها ترامب الآن كجزء من عملية بلورة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
باستثناء التهديدات التي تهدف إلى تسريع هذه العملية، من المهم الملاحظة أن ترامب يعطي أهمية كبيرة لدور ومسؤولية الحكومات التي تدير الدول التي تعمل فيها قوات مستقلة للجيش وتنظيمات إرهابية، ومستعد لاعتبارها شركاء حيويين وليس مجرد زر تشغيل. هذه رؤية استراتيجية مناسبة، لكن المشكلة وجود آلية تدمير ذاتية تكمن فيها، تعرف باسم “متلازمة ترامب”. هو يظهر مثل إعصار يهدد بتدمير كل شيء في طريقه، ثم يتلاشى من سحابة غبار.