مقالات

“استراتيجية الغباء”!

وليد حسين الخطيب/ لبنان

خاص “المدارنت”

    “أقول له: عَمرًا فيسمعه سعدَا    ويكتبه حمدًا وينطقه زيدَا”

هذه حال معظم المرشّحين اليوم في “موسم الهجرة إلى الانتخابات”، كأننا نعيش في مسرحية عبثية، لا يحكمها منطق ولا عقل، بل تُدار وفق ما يشبه خطة محكمة للغباء. ليس الغباء هنا سذاجة عقلية، بل نمط متكرّر في اتخاذ قرارات قصيرة النظر، تنبع من جشع فردي أو فئوي، على حساب مصلحة عامة يُفترض أنها أولى وأبقى.
في “استراتيجية الغباء”، لا تحتاج إلى مؤامرة كبرى لشرح انهيار الأنظمة، أو تفكك المجتمعات، أو تراجع الدول. كل ما تحتاج إليه هو أفراد أو جماعات يفضّلون مصلحتهم الآنية، ولو كان الثمن انهيار الأساس الذي يحملهم جميعًا. وهذا أشبه بمن ينشر الخشب تحت قدميه على قارب صغير، ليوقد نارًا تدفئه لحظة، من دون أن يفكر في أنه سيغرق في الماء البارد بعد دقائق.
حين يختار موظف عام أن يسرق المال المخصص للبنية التحتية، لا يرى في الأمر كارثة، بل يفكّر فقط في كيفية بناء بيت فخمٍ. وعندما تحتكر فئةٌ سلطةً أو ثروة، لا تسأل عن تبعات الغضب الشعبي، بل تحسب أرباحها في رصيد اليوم. أما عندما تصمت النخب الثقافية – وما أكثرها – عن التواطؤ، أو تبرّر الانحطاط، فذلك أيضًا غباء استراتيجي بزيّ النفاق.
الغريب أن هذه الاستراتيجية تنتشر كما لو كانت حكمة! يتبنّاها الجميع بتواطؤ صامت، كلٌّ يقول: “ما دامت المصلحة لي، فلا بأس”، متناسيًا أن السفينة إذا غرقت، فلن يُستثنى أحد. وقد قال المتنبي في الغباء:

    لكلّ داءٍ دواء يُستَطَبُّ به     إلّا الحماقة أعيت مَن يداويها

“استراتيجية الغباء” ليست قدَرًا، بل خيارٌ جماعي مموَّه بالأعذار. والخروج منها لا يتطلب عبقرية خارقة، بل قليلًا من الوعي، وكثيرًا من الإخلاص للخير العام.
في ضيعتي، كما في معظم الضيع اللبنانية، لم يبقَ أحد إلا وترشّح للانتخابات البلدية؛ الجزار، صاحب الدكان، الأستاذ المتقاعد، وحتى الذي لا يعرف كتابة اسمه إلا بشق الأنفس.. – ولا أقصد الانتقاص من أهمية أي مهنة ولا من أهمية أي عامل شريف أو صاحب أي مهنة، ففي عرفي ليس ثمّة مهنة حقيرة، بل ثمة أناس حقيرون، وأهمية الإنسان تكمن في إنسانيّته أولًا قبل أي شيء آخر – كلهم قرروا أنهم الأصلح لقيادة الشأن العام، أو يصلحون لأن يكونوا في الخدمة العامّة. وحدي أنا ومَن هو مثلي، جلسنا نتفرّج على هذا المهرجان الديمقراطي، ونتساءل: هل فاتنا شيء؟!
قد يبدو الأمر مضحكًا في الوهلة الأولى، لكنه في العمق ليس إلا تعبيرًا عن “استراتيجية الغباء” التي صارت تحكم سلوكنا الجماعي. الجميع يترشح بدافع “الواجب الوطني”، لكن ما إن تحفر قليلًا تحت هذا السطح، حتى ترى الحوافز الحقيقية: مصلحة شخصية، نفوذًا، وجاهة اجتماعية، أو تصفية حسابات عائلية..
في ظل هذا الطوفان من الطموحات الذاتية، تضيع الفكرة الأصلية من الانتخابات: اختيار الأكفأ لخدمة المصلحة العامة. بدلًا من ذلك، تتحوّل الانتخابات إلى منافسة بين أنانيات متنكّرة، كلٌّ يدّعي الإصلاح وهو لا يرى من الإصلاح إلا ما يصلح أموره هو.
هذه هي “استراتيجية الغباء”: أن نتصرّف جميعًا كما لو أن البلدية حقيبة مال معلّقة في الهواء، من يصل إليها أولًا يأخذ أكثر! أن يظن كلٌّ أن مصلحته ممكنة وإن احترق البيت الذي يسكنه الجميع. أن نخلط الحماسة الفردية بالمصلحة العامّة، فنقنع أنفسنا بأن “أنا” تعني “نحن”.
وحدي أنا لم أترشّح – وقلائل يشبهونني في التفكير – لأنّني لا أرى في نفسي أهلًا لحمل مسؤولية قرية مدمّرة كما قرًى كثيرة في لبنان، بفعل “الانتصارات المحقّقة”! بالتالي، أخاف أن أنجرّ إلى لعبةٍ بلا قواعد وبلا مصلحة، حيث ينتصر من يرفع صوته أكثر، لا من يفكر أفضل، وقد تكلّمنا وكتبنا كثيرًا في هذا الموضوع، ولكن الترشح صمّ آذان المترشّحين – وكلٌّ تواضعَ وقبِل أمام رغبة العائلة التي رشّحته – وأعمى أبصارهم وطمس على قلوبهم، فامتنع عليهم الفهمُ، فحق عليهم قول البحتري:

   عليَّ نحتُ القوافي من معادنِها       وما عليَّ إذا لم تفهمِ البقرُ

البلدية ليست سلطة، بل مسؤولية. والسياسة ليست وجاهة، بل تضحية. لكن من يفهم هذا، في زمنٍ باتت المصلحة العامة هي “الخاسر الأوحد” في كل معركة انتخابية؟!

المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى