استفتاء واسع لصالح خيار “المقاومة”..!
“المدارنت”..
لم يكن استفتاءً مُرتبًا على الطريقة الرسمية العربية، لا يجلب إلا التندّر والازدراء. كان استفتاءً عفويًا تداعت له جماهير عربية واسعة، مع أنه لم يكن محددًا بيوم معيّن، بل فرضته الأحداث على الجميع من دون سابق إعلام أو إعداد.
من أعطى إشارة الانطلاق لهذا الاستفتاء، لم يكن سوى استشهاد يحيى السنوار، بتلك الطريقة الدرامية التي خلدته مقاتلًا مدافعًا بشراسة عن أرضه وشعبه إلى آخر رمق، وانتشار لقطاته الأخيرة التي سفّهت كل ما أراد الاحتلال ترويجه لشهور من أن الرجل مختبئًا في الأنفاق، أو بين المدنيّين أو الأسرى “الإسرائيليين”، مُتّخذًا منهم دروعًا بشرية.
كان استفتاءً داعمًا لخيار المقاومة ضد الاحتلال، على الرغم من كل الدمار والمآسي والتضحيات التي لم تتوقف يوما منذ أكثر من عام، وهو الاستفتاء الذي تجلى على أكثر من مستوى:
الفلسطيني التنظيمي: لم يتأخر تنظيم فلسطيني واحد عن نعي رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، على الرغم من أن رمزيته تختلف كثيرًا عن سلفه الشهيد إسماعيل هنية، لأن اسمه ارتبط شخصيًا بما جرى في السابع من أكتوبر العام الماضي، وبالتالي، صُور نهائيًا “إرهابيًا وقاتلًا” في كل الدوائر الرسمية الغربية. كل ذلك لم يمنع حركة “فتح”، من نعيه، ولا اللجنة التنفيذية لـمنظمة التحرير الفلسطينية” مما خلق إجماعًا واضحًا هامًا جدًا في هذه المرحلة.
القانون الدولي يقر بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال
ومع ذلك يحرّف هذا الحق ليصبح ببساطة “إرهابا”
العربي الشعبي: لقد كانت صلاة الغائب في الكثير من المساجد العربية، والدعاء للرجل بالرحمة في صلوات الجمعة، مؤشرًا بالغ الدلالة، تماما مثل اندفاع آلاف الشباب في ملاعب كرة القدم للهتاف باسمه ورفع صوره.
حدث كل ذلك على الرغم من أن الحكومات العربية لم تجد من الجرأة ما يجعلها تتخذ أي موقف، لما يسبّبه لها ذلك من تبعات مع الإدارة الأمريكية ومع “إسرائيل” نفسها، بالنسبة لمن يحتفظ معها بعلاقات طيبة فوق الطاولة أو تحتها، لكن ذلك لم يمنع مؤسسة دينية محترمة مثل “الأزهر”، من أن تشق عصَا تحفظها الشديد وتخرج بموقف يمجد خيار “المقاومة”، ويعطي الشهيد حقّه من الاحترام والتبجيل، عكس ما يقوم به بعض من يحسبون على الإسلام في فرنسا مثلًا، مِن تَمَاهٍ مُقزّز، مع كل ما تقوله “إسرائيل” وداعموها.
الغضب الواسع من الإعلام العربي المعادي: مع أن الكثير أعربوا طوال الشهور الماضية، عن امتعاضهم من بعض وسائل الإعلام العربية التي استمرأت تشويه نضال الفلسطينيين ضد الاحتلال، إلّا أن وصول الأمر إلى حدّ وَصْم السنوار بالإرهاب مع آخرين كثر في تبرئة فظيعة للاحتلال وجرائمه، أصبح مستفزا للغاية. هذا الغضب تجلى بأشكال مختلفة، العنيف منه مثل ما حصل في بغداد من هجوم على مقر القناة التلفزيونية صاحبة تلك السقطة، وغيره على غرار التشنيع الواسع بهذا الإعلام في كل مواقع التواصل الاجتماعي بشكل لاذع للغاية. إن نظرة سريعة إلى عدد المشاهدين الهزيل للغاية لهذه القنوات العربية المجاملة للاحتلال والمتحاملة على المقاومة عبر “يوتيوب” مثلا تغني عن أي تعليق.
استمرار موجة الشباب العالمي المتضامن: مع إن اسم السنوار، وحده كفيل بالنسبة لكثيرين من المؤيّدين الأجانب للفلسطينيين بأخذ مسافة معينة من حادثة مقتله، لتجنب تصنيفهم المباشر والسهل بدعم الإرهاب والترويج له، لكن ذلك لم يمنع الكثير منهم من التعبير، من خلال مواقع التواصل المتعددة، على الأقل عن سفاهة الصورة التي أراد الاحتلال ترويجها عن الرجل والتي انهارت مع تلك الصور ولقطة المسيّرة وهو يرمي بعصاه عليها.
وعلى ذكر الأجانب، فقد كان لافتًا حتى قبل مقتل السنوار، مدى ما باتت تثيره تصريحات المسؤولين الغربيين من استنكار وغضب، بخاصة، عندما تصل في فحشها ما صرحت به وزيرة الخارجية الألمانية، من أن المواقع المدنية مثل المدارس والمستشفيات تفقد حصانتها، إذا ما لاذَ بها “الارهابيون”.
من المثير هنا، لو سلمنا جدلا بهذا المنطق الذي يتنافى بالمناسبة مع القانون الإنساني الدولي، أن نعرف موقف نفس الوزيرة لو أن أحد الإرهابيّين الألمان تحصّن بمدرسة أو مستشفى أو سوقا شعبية، هل كانت ستبدي نفس الحماسة لقصف هذه المواقع بالطائرات للتخلص منه ولو ذهب ضحية ذلك عشرات الأطفال والنساء؟!
لقد تهرأت تماما مقولة “حق “إسرائيل” في الدفاع عن نفسها” من فرط استعمالها المتعسف مع أن لا شيء في القانون الدولي يعتبر عنف وقتل قوة محتلة لشعب تحت الاحتلال “دفاعا عن النفس”، في حين أن القانون الدولي ذاته يقر بحق الشعوب في مقاومة الاحتلال ومع ذلك يحرف هذا الحق ليصبح ببساطة “إرهابا”.
لقد مل الناس من هذا النفاق الغربي المستفز للغاية لكن المأساة في حادثة السنوار أن بعض العرب باتوا صهاينة فعلا قلبا وقالبا فيما جاء الرد المفحم من حيث لم يحتسب الكثيرون حين تحول أبغض رجل لدى الغرب و”الإسرائيليين” إلى مدعاة فخر للفلسطينيين والأغلبية الساحقة من العرب في استفتاء عجيب قد لا يفهمه هذا الغرب، وربما يفهمه لكنه يفضل أن يكون مع القاتل على أن يكون مع الضحية.