الأشباح المؤسّسون في لبنان وجذوة التفاؤل الخطرة!
“المدارنت”..
للموتى سطوتهم الكبيرة على الأحياء في بيروت، موتى قدامى مثل رفيق الحريري، الذي يحضر وريثه سعد العائد بطموحات كبيرة، لتظهر لافتات كثيرة للتسويق لحصته المنشودة في لبنان جديد، ومن قدامى الموتى الإمام الصدر، الذي يعيش في ظلاله رئيس مجلس النواب نبيه بري، ويزاحمه في اللافتات التي تحمل بعضا من أقواله، أما بشير الجميل، فيظهر وحيدا في وسط الأشرفية، وتحت صورته الكبيرة شعار ترتفعون وتبقى لبنان!
أما على طريق المطار فيتمدد الموت الطازج للسيد حسن نصر الله، الذي تتأهب بيروت لتشييعه يوم الأحد 23 فبراير، وبعد ذلك يبدو أن لكل حادث حديث، فالجنازة ستكون استعراضا لقدرة حزب الله على العودة إلى المشهد السياسي، بعد الضربة العميقة التي تلقاها في التفرّد بانتخاب رئيسيّ الجمهورية والوزراء، وسقوط نظرية الثلث المعطل، التي كان الحزب يدير من خلالها الممكنات في المشهد اللبناني، ويمسك بقبضته على التوافقات التي تأجلت المرة بعد الأخرى، لتترك لبنان في فراغ سياسي لأكثر من مرة. هل تدعو التركيبة الحالية في لبنان للتفاؤل؟ وإلى متى يمكن أن تستمر النشوة التي أتت بقائد الجيش رئيسا، مع خطاب يحمل نبرة استقلال واضحة واستعادة بعض المرافق المهمة مثل مطار بيروت، والتصدي لعملية انتشار الجيش، بعد انسحاب إسرائيل من معظم الأراضي التي احتلتها في جنوب لبنان؟
في خريف 2019 خرج آلاف اللبنانيين من مختلف الطوائف، ليعلنوا شعار «كلن يعني كلن» في الساحات في وقت تدحرجت فيه الأزمة الاقتصادية بصورة متسارعة تواصلت حتى السقوط الحر لليرة اللبنانية، وتبخر أرصدة اللبنانيين في المصارف، لتصبح مجرد أرقام لا يمكن استعادتها.
وارتدت بيروت عباءة الحزن والقهر، وتلحفت بالخوف والتوتر، وحتى هذه الأوضاع لم تسهم مطلقا في تحريك المياه الراكدة بالصورة المطلوبة، بل بقيت حالة الجذب والشد قائمة، للحيلولة دون خطوات حقيقية لمواجهة المشكلات الممتدة، مشكلات صنعها الموتى الذين يسيطرون على الفضاء البصري في بيروت، ووراءهم طوائف مخلصة ترفعهم إلى مرتبة الأنبياء الذين لا يمكن المساس بهم.
لكل دولة آباؤها المؤسسون، أما في لبنان، فثمة أشباح مؤسسون لمعادلة المحاصصة، التي جعلتهم قبلة للحجاج من كل طائفة، ليوفروا الوظائف ويوزعوا المكتسبات، وأمام كل وظيفة غير ضرورية تثقل كاهل الدولة، كانت صورة الزعيم تحتل جدارا في منزل أسرة تحصلت على وظيفة لأحد أبنائها، أو حماية لنشاط تجاري.
وفي لحظة معينة، كانت الدولة اللبنانية تفشل في تزويد الأفواه الشرهة للطوائف، فالمديونية المتضخمة لم تقابلها خطوات حقيقية من أجل تأسيس اقتصاد حقيقي، يمكن أن يمول استحقاقاتها، وعلى العكس من ذلك، فعقيدة الغزو التي توطنت في الشخصية اللبنانية أثناء الحرب فرضت نفسها لتغيب وراءها مواصفات اللبناني (الحربوق) و(الشغيل) الذي كان، وما يزال، يمثل إضافة أينما ارتحل مهاجرا، ليشترك في العمل والبناء، ولكن ذلك لم يكن الحال في لبنان للأسف، فزعامات الطوائف، كانت تريد أن تحتفظ بمواقعها في خنادق وحواجز خرجت من أرض الاقتتال الأهلي، لتتوطن في رؤوس الزعماء الذين وجد كل منهم سكينة في يده، وأمامه تستلقي لبنان مثل وليمة مستباحة.
المؤشرات الإيجابية التي يظهرها الاقتصاد لا تصل إلى حدود مقدمات التعافي المطلوبة، والبعض يعتبرها فرصة للانقضاض على مشاريع يتوقعون أن تطرح من حلفاء خارجيين لاستعادة لبنان المستقر، والكل يطرح سيرته الذاتية بوصفه وكيلا محتملا، ومن غير الحلول الاقتصادية فالارتدادات محتملة بصورة مستمرة، وبدلا من بقاء لبنان في صورة التقاسم، سيتم تدشين الوضعية الراهنة، بوصفها الصنم الذي يحاول الجميع أن يبعدوا الأيادي عن ملامسته، وكلٌ منهم يستثني نفسه، ولكن إلى متى يصمد الصنم أمام استحقاقات الجوع القائمة، وكيف يمكن تفكيك دولة المحاصصة الطائفية التي تظهر عن نفسها في الجزر المنعزلة للطوائف داخل بيروت، وفي مختلف المدن والقرى الأخرى، كيف يمكن استعادة اللبناني الذي تشغله الحياة ومتطلباتها وإيقاعها عن الطائفة وغنائمها وثاراتها.
«كلن يعني كلن»، الصرخة التي كان يمكن أن تنقذ لبنان من نفسه ومن أبنائه الأنانيين، واجهتها حملة من التجاهل، وكأن كل زعيم كان يقول نعم كلهم باستثنائي أنا، ويبدو أن هذه الحيلة، ما زالت تغري الكثيرين، الذين يرون أن ما حدث هو مقدمة لإعادة توزيع الغنائم، بعد ضربة تلقاها حزب الثلث المعطل، وليس درسا يجب استيعابه من أجل تخطي التوزيع الغنائمي، تجاه بناء مساحة من التلاقي القائمة على الاستحقاق والكفاءة والتنافس البناء، ولكن المجال العام ما يزال مختطفا بالوعود التي يلقيها الزعماء الطائفيون على أتباع لا يجدون ما يجري كافيا ليوفر لهم الفرص التي يطمحون لتحقيقها، ولا يجدون أمامهم ما يكفي من الوقت للدخول في نمط جديد من الحياة.
الموتى يحكمون بيروت بأساطيرهم، ولا يبدو أن الأحياء يستطيعون تقديم أوراق اعتمادهم، وهذه وضعية غير عادلة، فالموت يعفي ساكنيه من ارتكاب الأخطاء، أما الحياة فهي بالضرورة سلسلة طويلة من الصواب والخطأ، وفي لبنان وفي وضع معقد وغامض، فإن طريق الأخطاء يختطف الجميع، وحتى من يحضرون من الأحياء مثل سعد الحريري ونبيه بري وغيرهم، فإنهم متدثرون بسلطة الموتى التي تبدو وكأنه تتراكم على طريق لبنان تجاه المستقبل.
التفاؤل الحذر في لبنان يجب ترويضه لكيلا يكون بعد أسابيع أو أشهر سببا في صدام جديد، تبدو كثير من الفرص مهيأة لتدشينه، خاصة مع عودة الأوزان النسبية للتقارب لصراع لبناني لن يجد كثيرون في أنفسهم الحماس أو الطاقة للتدخل في إدارته أو تسويته.