الإسلام منهج قَوام البشرية.. أصل الحرية/ الجزء (2)
خاص “المدارنت”..
الحرية كلمة سحرية لها تأثير بالغ في نفوس الناس عامة، وقد انتشرت مفاعيلها في العصر الحديث، وترسخت في وعي الجماهير وفي وجدانهم، فكانت رأس قائمة الحقوق الإنسانية، مع الإشارة إلى أن حياة الإنسان تفقد قيمتها وذاتيتها، ما لم يكن الإنسان حر في كليته. والله سبحانه أقر مبدأ الحرية في المعتقد والدين. فقال تعالى:
“.. لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ…”البقرة/256.
وفي التطبيق، تلازم الحرية الكرامة، إذ كلاهما ضرورة حياة، فلا حياة من دون حرية ومن دون كرامة. وايضا لا قيمة لحقوق ما لم يتمتع بها أهلها، ولا نفع لحريات معطلة عن الممارسات اليومية، على الرغم من أن معظم المواثيق والدساتير، تقرّ بحرية الإنسان، وتنظر اليه من خلال واقعه الإنساني ومن خلال احتياجاته المادية، كما وتراه في شموليته الذاتية، وتعتبر حقوقه هبة ربانية، كما وتعبيره عن رأيه وحريته، تخويل الهي. وعلى هذا الأساس فإن المجتمعات البشرية تقاس مراتبها الحضارية ورقيٍها، بمقدار ما تملك من أهلية ممارساتها لحريتها في تطبيق حقوقها الدالة عن شمولية الوعي والاستعداد الأمثل للدفاع عنها.
تعتبر الحرية للانسان، محور إطلاق طاقاته المادية والفكرية والنفسية، فتحلق به نحو الخلق والابداع والابتكار، كما وتمثل الدافع لتحريك عجلة حياته العاطفية، كما ولها من قوة الدافع للسيطرة على الافراد، رؤساء ومرؤوسين، على حدّ سواء. فالحرية حقيقة من حقائق الاجتماع البشري، أيّ أن قيمتها الفاضلة، إنما تظهر في أفعال واعمال الناس ومشاركتهم في التفاعل والتعامل والاجتماعات.
الإنسان طاقة نفسية قابلة للتشكل، حيث يتم ذلك في سياق شبكة من العلاقات الإنسانية، في إطارها التوجيهي والبنائي، على كافة المستويات العلمية، والمكوّن ايضا من أنسجة معقدة من النمو الاجتماعي والثقافي، الذي يعكس نمط الحياة الاجتماعية، ثم يطبعها بطابعها الثقافي. وعلى هذا الأساس لا يمكن لمؤسسات الدولة ونظامها الاداري، على الصعيدين الديني والمدني، أن تنفصل عن الحياة الاجتماعية، أسرة ومجتمعا، لأنها (كمؤسسات) تحمل في طياتها صورا من العلاقات والممارسات التي عاشتها أثناء تشكلها التكويني، والتي تقوم على منظومة من القيم والمفاهيم والتصورات، بأبعادها الاجتماعية والثقافية، ثم بأثرها الديني أو المدني. لأن تلك المؤسسات التي تحضن الفرد الانساني، منذ فترة اختيار الأب للأم، الى حين انخراطه في المجتمع، مرورا بالمدرسة، إلى أن يتشكّل في ذاته، ثم يستقل بإرادة المواقف، فهي (المؤسسات قد تكونت، ماديا ومعنويا.
من تلك العناصر الاجتماعية، التي من خلالها العناصر البشرية، تعمل المؤسسات بوظيفة التواتر والاستمرار، رفضا أو قبولا، على بناء العقل الفاعل، معرفة وتفكيرا، إلى جانب السعي في بناء الجوانب النفسية والأدبية الأخلاقية، التي تربطه دائما بنسق وجوده الاجتماعي.
فالمؤسسات الحاضنة للفرد الانساني، إنما هي تمثل المحور التكويني للعقل والنفس معا، لأن المعرفة الإيجابية ومهما ارتقت، تبقى في نقصها ما لم تؤيدها مناعة الأخلاق، ثم تزكية النفس وسموها.
وهكذا فالانسان وكليته الذاتية وما يحمل من صفات ومزايا، إنما هو عطاء ومنحة إلاهية. فحرية الإنسان فطرية ذاتية، فلا يجوز النظر إليها كموقف تجاه الآخر، يعني أن حرية الإنسان تقرر مسؤوليته عما يفعله وبعمله.
لقوله تعالى:
” كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ.. “المدثر/38..
“وَأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى..”/ سورة النجم: آية 39…
وإذ نؤكد أن اعظم تطبيقات الحرية الإنسانية إنما تكمن في اختيار الإنسان بين الضلال والهدى، بين الكفر والإيمان. لقوله تعالى:
“فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ../ الكهف/ الآية 29..
“.. لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ../ البقرة/ 256.
بهذه الآيات حسم القرآن اصل الحرية، حرية الاختيار، الاختيار في أهم المسائل والقضايا، مسألة الإيمان والكفر، مسألة التوحيد والتعدد، وكل ما دون ذلك، يكون جزء وفرع مقابل الأصل الكامن في القدرة على الاختيار، وهذه الحرية لا شك أنها تتضمن حرية التصرف وحرية السلوك في إطار حفظ الحقوق والواجبات، من دون تجاوزها.
فالحرية تهدف إلى تحقق التكامل والتوازن في شخص الفرد الانساني. حيث يتجلى ذلك في عمليات وفعاليات الحوار والمناقشة وإبداء الرأي والرأي المخالف، مع ضرورة الاستماع والأخذ بالنقد الايجابي. ونلحظ هنا أن تحقق مثل هذا الأصل، إنما ينطلق العطاء والابداع، الذي هو مقصد الإسلام، كما ويكمن المقاصد ايضا، في تحرير الذات الإنسانية من خضوعها وانصياعها لغير العزة الإلهية، ثم جعلها ارفع من أن تكون مطية الهوى والشهوات والنوازع.
وعليه نجد التشريع الإسلامي قد وضع الحقوق واقر الواجبات ثم وزع المسؤوليات وهذا قول الفاروق، ابن الخطاب:
“.. متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!
فالحرية مرتبطة بمولد الإنسان وعلى ما فطر عليه، حيث يأبى الخضوع لغير الله تعالى، وهذا يعني أن الإنسان يملك إرادة الحرية والعمل في حق تحققها على الصعد كافة، الصعيد المعتقد والفكري والوجداني، وبهذا يقوى الإيمان القائم على قاعدة الاختيار الحر، لأن حرية الإعتقاد أسبق الحريات العامة. لقوله تعالى:
“إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ..”.
…﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا..”.. الإنسان: 2-3.. “..
أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ../ يونس/ 99.
بهذا ينطلق المسلم بحريته الفكرية، حيث يمكنه التفكير في جميع نواحي الأمور العلمية ويحققها عمليا، أي أن الحرية الفكرية إنما تنتج حرية الرأي مع إعلان موقفه وفكرته، إذ لا حظر في مجال الفكر، إلا القصد منه هدم الدين، (كعمل الفرق الشعوبية…) وننوه إلى أن ضمان تحقق مثل هذه الحرية، وجب على علماء الأمة وحكماءها العمل في دائرة النقاش والحوار والتدقيق، في كثير من المسائل الفكرية والفقهية المتنوعة التي لها الأثر البالغ في الحياة الاجتماعية والثقافية.. ثم توضيحها وبيان أصولها التي تحقق المصلحة العامة.
هذه الحرية، إنما تقودنا إلى الانقياد نحو سلوك سوي، الذي يفرض المشاركة الاجتماعية مع تحقق المساواة فيها التي تناسب قدرتنا أصحابها، يعني ضرورة تقبل الآخر وفهم مشاعرهم واهتماماتهم، مع عدم اللجوء إلى العنف، ثم اعتماد لغة الحوار الهادئ والإقناع المثمر.
هذا السلوك المشترك الحر سيؤدي إلى: –انطلاقا من الجانب المعرفي وبصورة متسارعة متكاملة هادفة–
نمو القدرات الابداعية، نمو الجوانب الانفعالية، تكامل الاتزان العاطفي، نمو الجوانب الاجتماعية وتكاملها في شخصية الفرد، ثم نمو الثقة بالنفس والاحساس بالاستقلال.
الحرية كمفهوم اسلامي، تبني شخصية الإنسان الفرد، وترتقي به بعيدا عن ثقافة القهر والتسلط ،التي تهدم كل مشاعر تتعلق بشخصية الإنسان، كما أن الحرية تهذبه من دنس عِقَد النقص والدونية والقصور. فالإسلام لا يحمل الناس، افرادا أو جماعة، على الإكراه، إنما بريدهم مؤمنين عن قناعة ورضى وقبول واختيار، بعد تحقق سبل الحجة والبرهان.
(يتبع)