الإقصائية والاستئثارية في العقلية العربية
خاص “المدارنت”..
إن كل أمة من الأمم، متحضرة كانت أم متخلفة، حية كانت أم ميتة، وكل شعب من الشعوب، وكل مجتمع من المجتمعات لها عقلها الجمعي.. الذي تفكر به وتنظر من خلاله وبه إلى نفسها أولا، وإلى الآخرين ثانيا، شعوبا كانت أم أمما أم الكون كله والحياة بأكملها، وتتعامل مع ذلك كله وفقا لتلك العقلية، إيجابا كان أم سلبا، ويكون حاضرها نتيجة طبيعية وحتمية، وانعكاسا حقيقيا لتلك العقلية، تحضرا كان أم تخلفا، ويكون مستقبلها امتدادا طبيعيا وحتميا لذلك الحاضر، مالم تحدث تغييرات جذرية وجوهرية في طبيعة تلك العقلية. لها في الاتجاه الإيجابي أو السلبي، بفعل عوامل داخلية أو خارجية أو كليهما معا.
إننا كأمة عربية وما تعانيه في حاضرها من تخلف في مختلف مناحي الحياة السياسية، الدينية، الإجتماعية والثقافية.. إلخ، ماهو إلا نتيجة طبيعية وحتمية وانعكاسا حقيقيا لتلك العقلية، التي تتحكم بها وتسيطر عليها وعيا وسلوكا، فالعقلية العربية الحاضرة تعاني من إشكاليات عديدة ومتنوعة، ومن دون الدخول في جدلية العوامل والأسباب التكوينية والبنيوية التي أثرت فيها، تكوينيا وبنيويا، والتي أدت في الأخير إلا ما هي عليه اليوم، فإن تلك الإشكاليات العديدة والمتنوعة هي التي أفرزت حاضر هذه الأمة كواقع معاش وملموس.
ومن ضمن تلك الإشكاليات وأهمها وأخطرها، هي تلك الإشكالية المتمثلة والمتمثلة بإشكالية الإقصائية والاستئثارية.
إن الإقصائية والاستئثارية، تعد من إحدى الإشكاليات الرئيسية التي تعاني منها العقلية العربية الحاضرة، وعيا وسلوكا، قولاً وعملاً، ومن بدون الدخول في جدلية وتفاصيل العوامل التي أدت إلى ذلك، وهل هي صفة أصيلة فيه ومتجذرة عبر الأزمان، أم أنها إشكالية جديدة التصقت بها مؤخرًا نتيجة عوامل عديدة، ذاتية وغير ذاتية، فإننا نلاحظ أن الاقصائية والاستئثارية صفة من صفات العقلية العربية الحاضرة، وعيا قبل سلوكاً، في تعاملها مع الآخر، أسريا كان أم مجتمعيا أم سلطويا، ذكوريا بالمقام الأول والأخير، سواء كانت تلك العقلية دينية بتفرعاتها، أو يمينية بتفرعاتها، أو يسارية، بشقيها القومي والماركسي وتفرعاتها.
فهي، أي تلك العقلية العربية الحاضرة، عندما تتحاور مع الآخر، ليس قناعة منها بأهمية ذلك الحوار، والخروج من خلاله بمخرجات تؤدي إلى العيش المشترك معه، والقبول به، وإنما تفعل ذلك اضطرارا وتكتيكا وتقية وانحناء أمام العاصفة، في الوقت الذي هي نفسها غير مؤمنة به وغير مقتنعة، وتضمر في سرها الانقلاب عليه، وإقصاء الآخر، والاستئثار بكل شيء، وذلك متى ما تسنت لها الفرصة المناسبة لذلك، ومتى ما توفرت لديها القدرة على ذلك، مستخدمة في ذلك الانقلاب كل أصناف وأنواع الوسائل القذرة والبذيئة غير الأخلاقية، بغرض إقصاء الآخر، والوصول إلى ما تريده والاستئثار به، تماشيا منها مع قاعدة الحرب خدعة، والضرورات تبيح المحظورات، والغاية تبرر الوسيلة، وفقا للقاعدة الميكافييلية.. إلخ، مستخدمة في سبيل الوصول إلى ذلك كل الأطروحات النبيلة، دينية كانت أم دنيوية، استغلالا لاأخلاقيا لها. إلخ.
من أهم مظاهر تلك الإقصائية والاستئثارية في العقلية العربية الحاضرة على سبيل المثال لا الحصر: أولا: الإقصائية والاستئثارية الأسرية
يتجلى ذلك، من خلال إقصاء الزوج لزوجته، والأخوة الذكور للأخوات الإناث، وهذه هي ظاهرة الذكورية، ومن خلال إقصاء كبير الأسرة، أبا كان أم أخاً كبيرا في الغالب، أم عما أم خالا.. لبقيتها، والاستئثار من قبلهم بمقدرات الأسرة وبما تملكه.
ثانيا: الإقصائية والاستئثارية الاجتماعية
يتجلى ذلك، من خلال إقصاء بعض الأسر الاجتماعية أو الفئات الاجتماعية أو الطوائف الاجتماعية، لغيرها من الأسر والفئات والطوائف الأخرى، بإعتبارها أفضل وأرقى مكانة من غيرها، نسبا كان أو جغرافيا أو جهوية، ومن ثم الاستئثار بمقدرات الآخرين وأملاكهم، والتعامل معهم بدونية مفرطة ومقيتة مذمومة.
ثالثا: الإقصائية والاستئثارية الاقتصادية
يتجلى ذلك، من خلال استئثار بعض القوى الاقتصادية، في التحكم برأس المال الوطني والمشاريع الاستراتيجية الاقتصادية، وتوكيلات الشركات العالمية في البلد، والتي تدر عليها الأرباح الضخمة من الأموال، وتكسبها نفوذا كبيرا، محليا كان أم إقليميا أم دوليا، وإقصاء الآخر، أو إعطائه الفتات القليل والقليل من كل ذلك، واستخدامه للتوزيع، شرط أن يُسبّح بحمدها وكرمها عليه، ويثني ويشكر لها فضلها، ولا يحاول الخروج عليها، والا كان مصيره الزوال ، كل ذلك، ما كان له أن يكون أو يتم، من دون الترابط الوثيق بين تلك القوى الاقتصادية، وبين السلطة السياسية الحاكمة، بإعتبارها شريكا أساسيا في ذلك، برأسمال ما يُسمّى الحماية.
رابعا: الإقصائية والاستئثارية السياسية
يتجلى ذلك، من خلال استئثار طرف سياسي محدد، من دون غيره بالحكم في البلد، والتحكم بمصير الوطن، بأرضه وإنسانه، وإقصاء الآخر وتجاوزه، والعمل على إزالته والغاءه والتخلص منه، متى كان في نظرها يمثل تهديدا خطيرا وجديا على وجودها .
تقوم بذلك كله بمبررات عديدة وكثيرة، منها : الشرعية الثورية، الشرعية الدينية، الشرعية الوراثية، الشرعية العرقية، الشرعية المذهبية، الشرعية الجهوية، الشرعية المناطقي. وغيرها من الشرعيات التي لا تمسّ للشرعية الوطنية الحقيقية بأي صلة من الصلات.
قبل ذلك، والأهم من كل ذلك، والأخطر منها جميعا: الإقصائية والاستئثارية الدينية العقائدية بين مكونات المجتمع الواحد، الذي تتعدد فيه الأديان والعقائد المختلفة، وليس ذلك مقتصرا عليها وحدها فقط، بل أننا نجد ذلك داخل الديانة الواحدة، عبر تلك الإقصائية والاستئثارية بين مختلف المذاهب المختلفة. يتمثل ذلك، من خلال الصراعات الدينية والمذهبية بين الأديان، بعضها البعض، وبين المذاهب المختلفة في إطار الديانة الواحدة، والحروب التي جرت وتجري بينها البين، كل يحاول إقصاء الآخر ونبذه، عبر تكفيره، ومن ثم الاستئثار بمقدرات البلد لصالحه هو وحرمان الآخر المغاير له دينيا ومذهبيا منها.
بل إن تلك الإقصائية والاستئثارية، تتعدى الحدود الدنيوية، لتشمل كذلك الحدود الأخروية، فكل دين وكل مذهب يدعي بأنه الوحيد الذي سوف يدخل الجنة وحده، لا شريك له، وما عداه فمصيره جهنم والعياذ بالله. وغيرها، من تلك المظاهر الأخرى لتلك الإقصائية والاستئثارية كالثقافية والحقوقية، وقبل كل ذلك والجامع لكل ذلك، الإنسانية.
إن الإقصائية والاستئثارية في العقلية العربية الحاضرة، سببا من ضمن الأسباب الرئيسية الهدامة، التي تعوّق تلك العقلية عن التطور والقبول بالآخر، والإعتراف به شريكا أساسيا في بناء المجتمع والوطن والدولة والأمة، في إطار المشروع الحضاري التنويري والتحديثي الحداثي.