الاستقرار المُميت!
“المدارنت”..
كثيرا ما يستخدم تعبير ”الحفاظ على الاستقرار” في اللغة الديبلوماسية، كتعبير يوحي بالسلام والطمأنينة والأمن، لكن الحال ليس كذلك بالنسبة لسوريا، فأخطر ما تواجهه سوريا اليوم هو استقرار الوضع القائم.
وضع لا يحتمله أي شعب في هذا العالم، في الداخل الذي يسيطر عليه النظام أصبح أكثر من 85% من الشعب تحت خط الفقر، وعجلة الاقتصاد شبه متوقفة، الفساد والفوضى وافتقاد القانون في كل مناحي الحياة، لا أمل للجيل الجديد سوى بالهجرة خارج سوريا، وفوق ذلك كله يجثم الكابوس الأمني كوحش من خارج التاريخ فوق الجميع.
حتى نافذة الهجرة تكاد تغلق, لم تعد البحار تستقبل المغامرين الذينن يتحدون أقدراهم بالبحث عن حياة خارج سوريا بين أشباح الموتى الذين ابتلعهم البحر, انتفضت أوروبا ضد ما تبقى من نوافذ ضيقة يتسرب منها هؤلاء التعساء، وأقامت حواجز الموت لمن لا يبتلعه البحر. لا أحد يريد أن يرى السوريين على البرّ الأوروبي، حتى لو كلف ذلك تغيير قوانين اللجوء التي أنتجتها الحضارة الانسانية في ردها على فظاعات الحرب العالمية الثانية.
لا أحد.. ولا عتب على الغريب حين يقفل القريب الأبواب والنوافذ, ويعامل السوري كطريد للعدالة أو كعبد آبق.
ومن تحمل السوريين كمهاجرين باعتباره هو من الأنصار، ضاق ذرعا، وأصبح السوري بالنسبة إليه مسؤولا عن أيّ مصيبة، ربما ما عدا الزلازل والبراكين.
أربعة ملايين في تركيا، يعيشون في خوف، وهم إن أمنوا يومهم، فلا تأمن الغد, وثلاثة ملايين في الشمال السوري وادلب، لا يكادوا يرتاحون من قصف المدافع والطائرات هنا وهناك، حتى تطلع عليهم مخاطر التطبيع بين تركيا والنظام الذي ينظر إليهم إما كإرهابيين أو كبيئة تحتضن الارهاب في أفضل الأحوال.
فأين يذهبون إن سارت قافلة التطبيع؟ “قَسد”، والنظام من ورائها والجدار الأمني التركي المحمي جيدا أمامهم, فحالهم كحال جيش طارق بن زياد، حين أغرقت السفن التي أقلته الى البرّ الاسباني.
المهاجرون الأفضل حالا في أوروبة، يعيشون أيضا في أصعب الظروف وتتهددهم النزعات العنصرية عميقة الجذور بل بدأت بعض الحكومات الأوروبية حملات لإعادة تقييم الأوضاع في سوريا، وإلغاء إقامة اللاجئين السوريين، باعتبار أن الأوضاع مستقرة ضمن ذلك الجزء من سوريا الذي هاجر منه السوري، حتى لو كان مدينة صغيرة تحتل الميليشيات الأجنبية محيطها بالكامل.
لا أمل حتى في بعض الانفراج الذي توقعه البعض، باعتبار أن الحرب انتهت ليكتشف الجميع أنهم عاشوا أيام الحرب أفضل من أيام السلم الحالي.
حاربت أوروبة في الحرب العالمية من العام 1939 وحتى 1945، وبعد الحرب نسي الجميع ما كان، وانصرفوا نحو البناء، أما سوريا، فيراد لها الحياة في أجواء حرب لا نهاية لها، فأي استقرار هذا؟
تسير الولايات المتحدة على خطين متوازيين في سياستها السورية, فهي من جهة تظهر التعاطف مع محنة الشعب السوري، واستنكار ممارسات النظام، بل والاستعداد لفرض العقوبات عليه وتشديدها بين الحين والآخر.
وهي من جهة أخرى، تعمل على إدامة توازنات ”الستاتيكو” الحالي الذي يبقي سوريا ممزقة، ويبقي النظام، ولكن ضعيفا غير قادر على تغيير تلك التوازنات.
وعلى خطا السياسة الأمريكية تسير السياسة الأوروبية، مع هامش محدود لا يصنع فارقا يذكر.
في المقلب الآخر، إيران مرتاحة لاستقرار الوضع, فاستقراره يتيح لها استكمال مشروعها في سوريا بهدوء.
روسيا، أيضا مرتاحة لاستقرار “الستاتيكو” السوري ربما مع تعديلات طفيفة.
أما تركيا، فرغم كونها غير مرتاحة، لكن سياستها تبدو مترددة، وهي تنظر في عيون الولايات المتحدة قائدتها في حلف “الناتو”، وروسيا عدوها التاريخي القوي، الذي أصبحت أسيرة علاقاتها الجديدة معه، وهي العلاقات التي توازن بها تركيا علاقاتها مع الغرب.
تركيا، غير مرتاحة لـ”الستاتيكو” السوري، لكنها حذرة جدا وتريد ضمان موافقة كل من الولايات المتحدة وروسيا على أيّ خطوة لها لتغيير ذلك “الستاتيكو”, وهكذا انتهى بها الأمر للدخول من بوابة النظام السوري بهدوء لكن تلك البوابة ما تزال مغلقة أمامها.
استقرار مميت سوف يطيح استمراره بما تبقى من سوريا، ولا يبقي للسوريين من أمل.
ماذا بقي؟ بقي أن تتّحد إرادة السوريين في لحظة الخطر الكبير، وينتفضوا على عوامل التمزّق كيّ لا يخرجوا من التاريخ.