الانتصار للعربية
فـاروق حـمّــود
خـاص”المدارنت”... ليستِ اللّغة العربية علومُ قواعدٍ ونحوٍ ، ميزانُ صرفٍ، علومُ بيانٍ، محسناتٍ بديعيةٍ، بحورُ شعرٍ، أنواع ٌأدبيةٌ، وأنماطٌ، إنّما هِي هويتنَا، التي تمثلُ تاريخَنا وحاضِرنا ومستقبلنا. وبمَا أنّ الصّراع اللغويّ حتميٌّ بينَ الحضاراتِ، فليسَ مستغربًا ما تعرضتْ لهُ لغتنا وما تتعرضُ لهُ الآن، منْ هجومٍ شرسٍ ممنهجٍ منظمٍ لتدميرها وتفريغها وإنهاكِها، وبالتالي إزالة الهُويّة منْ جذورها الأصليّة.
هذا الصراعُ، المتمثلُ بمَا يُشاعُ عن صعوبةِ فهمِ العربيةِ، كتابتها، إلقائها، أو العمل وفقا لقواعدِها وإملائِها وميزانِها وصرفِها، يمثل ُإجحافًا جلياً بحقّ هذهِ اللغةِ، والمتلقفينَ لهذهِ الإشاعات منْ كافة شرائحِ المجتمع الثقافية، لا سيّما نخبُ المجتمعِ، إنّما يُسْهمونَ بشكلٍ متعمّد أو غير متعمّد بانتشارها.
ولو محّصَ الإنسانُ، العاقلُ، القارئُ، الكاتبُ والسّامع في لغتِنا، وقارنَ بينها وبين غيرها منَ اللغات، لبدا واضحاً الفرقُ الشّاسعُ بين قدرة اللغة العربية على التعبيرِ لفظًا وكتابة وأصواتا، وبينَ مَحدوديّة التعبير والكتابة في غيرها، ولكنّ جهلَ هؤلاء بلغتِهم، جعلَهم يسيرونَ بما هوَ ملجأٌ لجهلهم. فلننظرْ الى بعضِ ما تمتاز بهِ لغتنا وبشكلٍ مختصر.
لغتنا، صاحبة الأحرف الثمانية والعشرين، تمتازُ بمرونةٍ وسعة ٍعاليةٍ في التعبير، تتمايزُ فيها عنْ سائرِ اللغات، التي تكادُ تقف ُعاجزة عنِ التعبير الدقيقِ أحيانًا، أو تكرّر نفسها أحيانا أُخرى.
فأيّ لغة ٍتهتم بمخارجِ حروفِها منَ الحلقيّة واللثويّة والشفويّة؟ لتشكلَ نغمًا موسيقيا تلقائيًا، ولتنتجَ حروفا متقاربة متنوعة، من سينٍ وصادٍ أو تاء ٍوطاءٍ أو دال ٍوضادٍ وغيرها.
أيّ لغةٍ تلك َالتي تملكُ المترادفات في مفرداتها؟ فتتعدّد الكلماتُ التي تدلّ على مُسمىً واحدًا، كقولك سَنة وعام وحَوْل، أو تحملُ التضادَ في الكلمةِ الواحدة، لتدل ّعلى معنيين متعاكسين، كالجَونِ مثلاً، ويقصد فيه البياض والسّواد، أو اشترى، التي تستخدم للشراءِ والبيع، ويتغير معنَى الكلمة فيها وفقًا لموقعها في سياقِ النصّ، وهنا ينطلقُ التعبيرُ إلى آفاقٍ غير محدودة، حيثُ تتماهَى المفرداتُ وتتغيّر مَعانيها ومفاهيمُها، وفقا لموقعِها في النصّ، أو تحملُ خاصّية التقديم والتأخير، التي تساهم في إبرازِ المفاضَلة المطلوبةِ للكاتبِ، بينَ المبتدأ والخبرِ، أو بينَ الفاعلِِ ومفعوله للمثالِ لا للحصر.
أيّ لغةٍ تلكَ التِي تتزينُ كلماتُها بالحركاتِ، منْ فتحةٍ وكسرةٍ وضمّةٍ وسكونٍ، تـُحاكي الأصواتَ، وتـُقلّب المعانِي والمفرداتِ لتشكلَ لوحاتٍ لغويةٍ رائعةٍ، وتميّزُ الفاعلَ مِن المفعول، والماضي منَ الحاضر، فتسهلُ الفهمَ لما هوَ مُراد .
أيّ لغةٍ تلكَ التي تـُصاغ وفقا لميزانٍ صرفيٍّ دقيقٍ، يقولب المفردات لتخدمكَ في التعبير، وأيّ لغةٍ تتحملُ الإيجازَ أوالإطنابَ، اللذان يُسهلهما إتساعُ المعاني في المفرداتِ، المُتوالدة بالتصريفِ والاشتقاق ومحاكاةِ الصّفاتِ والهيئاتِ. فلو أردتَ أنْ تعبّرَ عن ِ السّرورِ لنْ تجدَ في أيّ لغةٍ منْ لغاتِ العالمِ، سوى مفردة واحدة أو اثنتين لتستخدمها، بينما في العربيةِ فلكَ خياراتٌ متعددةُ، عوضًا عن تنوعِ النعوتِ والصفاتِ، التي تتحولُ إلى مسمياتٍ تحلّ محلّ الإسمِ، لنحصلَ على مئات الأسماءِ للأسدِ أو عشراتِها للسّيفِ مثلاً.
لغتنا يا صديقي، هيَ الأوسعُ والأقدرُ على التعبيرِ، والأوضحُ في البيانِ، والأشدُّ طواعيّة للكاتب ِ والمتكلمِ والسّامع، فكلما ازدادتْ الأدواتُ وتنوعتْ في يديكَ، إزدادَ إبداعكَ في عملكَ، والصعوبة التي يدّعِيها أولئكَ المارقين على الّلغة، ليستْ لخطبٍ فيها، إنّما لقصورٍ فيهِم، لغتنا، لغةُ الضّادِ، إنتصرتْ وستنتصرُ دومًا، ولمْ ولنْ تزولَ، أنّها لغةُ الأرضِ والسّماءِ.