آخر الاخبارمحليات سياسيةمقالات
البطريرك الذي صنعَ “السياسة”
إيلي القصيفي
خاص “المدارنت”.. شاء القدر أن يولد البطريرك نصرالله صفير في العام 1920، الذي شهد اعلان دولة لبنان الكبير، وان توافيه المنية قبل نحو السنة من حلول الذكرى المئوية الأولى لهذا الاعلان. ولا شكّ في أنّ هذا التزامن في الولادة والممات مع لبنان الكبير، ما كان ليكتسب هذه الأهميّة الرمزية والواقعية، لو كان لبنان الكبير بعد مئة عامٍ على قيام كيانه الجغرافي والسياسي دولة ناجحة، سواء في مبدئها السياديّ بـ”احتكارها وسائل العنف”، أو في مبدئها الاقتصادي والاجتماعي، بقدرتها على تأمين ظروف عيش لمواطنيها وفق مقتضيات العدالة والسلامة.
الكاردينال الراحل نصر الله صفير
طبعاً، لا يمكن تلخيص تجربة لبنان الكبير دولة ومجتمعاً، بما آلت اليه أوضاعه في السنوات القليلة الماضية، لا سيما في ظل الاختلالات السياسية والتحديات الاقتصادية الراهنة، إلّا ان هذه التحديّات والاختلالات هي بشكل من الأشكال، الخلاصة الدراماتيكية لهذه التجربة التي ما فتئت تراوح طوال مئة عام بين الأمل والخيبة، وبين النجاح والفشل. وإذا كان دور البطريركية الماورنية حاسماً في قيام دولة لبنان الكبير، فإن بروز الدور السياسي للبطاركة الموارنة طيلة السنوات المئة الماضية – وهو دور بلغ حدّا غير مسبوق في عهد البطريرك صفير لظروف موضوعية وذاتية – لهو دليل على تعثّر هذه التجربة والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي الذي انبثق عنها، بمقدار ما هو دليل أيضاً على الدور المحوري للبطريركية المارونية في حفظ هذا اللبنان ودولته التعددية.
والحال هذه، لا يُمكن النظر إلى البطريركية المارونية كصرح كنسي وديني وحسب، إذ هي، أقلّه منذ العام 1920، صرح سياسي أيضاً، ليس كفريق من أفرقاء اللعبة السياسية، وإنما كأحد أهمّ صانعي ومنتجي السياسة في لبنان. وهذا اختصاص ووظيفة.. وقدر لا يمكنها الفكاك منه، إلّا اذا استطاعت ان تتنصّل من مسؤوليتها عن قيام لبنان الكبير، وهذا من سابع المستيحلات.
نحن اذا في موت صفير، أمام هذا الواقع التاريخي المعقّد والصعب. نجد أنفسنا في لحظة نستعيد مئة عام من تجربة دولة ومجتمع. وهذا امتحان صعب. أولا، لأن ماضي هذه التجربة شهد انتكاسات والتباسات سياسية وثقافية، وثانياً، لأن حجج المؤتمنين بالسلطة والقوّة على حاضرها يعوزها الإثبات، ما دامت الأمور تكاد تنهار بين أيديهم، وثالثاً، لأنّ مستقبلها شديد الضبابية اذا ما أخذ بالظروف الموضوعية التي تحكم حاضرها. والحال هذه، فإن موت صفير هو لحظة سياسية بامتياز.
أولّا، لأن صفير نفسه هو بطريرك سياسي، ومن عُجنة سياسية – قد يكون لنشأته الفلاحية في ريفون الكسروانية، قرية طانيوس شاهين سبب في ذلك، وقد صقلته التجربة لاحقاً – بمعنى أنّه كان يصنع السياسة وينتجها في زمن كان لبنان أحوج ما يكون الى من يصنع السياسة خارج أوعية “الأمر الواقع” بأشكاله المختلفة. وثانياً، لأن منطلقات صفير ما كانت ضمن المجال السياسي الماروني، خاضعة لانفعالات ومنطلقات القوى السياسية المارونية مهما بلغ نفوذها. أي أنّه ما كان يخضع للعبة موازين القوى بالمعنى الضيّق للعبارة، لا في النطاق الماروني ولا في النطاق اللبناني عموماً. فقد بقي طيلة عهده واعياً للأدوات السياسية والتاريخية والمادية التي بين يديه، والتي تمكّنه من صناعة سياسة خاصة بالبطريركة المارونية. وهذا امتياز بطريركي في نهاية الأمر.
ولعلّ تفرّد البطريركية المارونية في سياستها “المارونية” واللبنانية وحتى العربية، مرتبط أساساً بأبوتها للبنان الكبير. وبالتالي هي تعرف تمام المعرفة – وإن بتفاوت بين متبوئي سدّتها – أن بقاءها على ما هي دوراً وموقعاً، هو من بقاء لبنان الكبير فكرة ووجوداً. إذ ذاك يمكن القول أنّ هذا الترابط التاريخي بين البطريركة المارونية ولبنان الكبير، هو المحرّك الأساسي لسياسة “بكركي” ما بعد العام 1920.
لذلك، ما جنح البطاركة الموارنة منذ البطريرك الحويك – انطلاقاً من نظرتهم الى لبنان، إلى تأييد سياسات وممارسات مناوئة لهذا اللبنان الكبير، ويمكنها أن تعرضّ نظامه القائم للاختلال. ومن ذلك أنها عارضت البطريركية المارونية تجديد ولاية اي من الرؤساء الموارنة، ورفضت الوجود المسلح الفلسطيني، كما منطق المليشيات والنزعات التقسيمية التي صدرت عنها، ورفضت الاحتلال الاسرائيلي كما الوصاية العسكرية والسياسية السورية على لبنان، وعارضت تمسكّ حزب الله بسلاحه بعد الانسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان.
وعليه، يجب دائماً إفراد خصوصية لسياسة البطريركية المارونية في مقاربة السياسات المارونية عموماً. فهي ما كانت يوماً طيّعة للقوى المسيحية النافذة، متى رأت أن سياساتها لا توافق نظرتها الى لبنان، المستمدّة أساساً من ارتباطها التاريخي بلبنان الكبير وفكرته. وهو ما يمكن الاستدلال عليه مراراً وتكراراً في سياسة صفير، ومن سبقه من البطاركة بعد الحويك ولاسيّما المعوشي وخريش، اللذين عمل معهما صفير نفسه.
وهذه الميّزة، لطالما شكّلت السبيل للبطاركة الموارنة للخروج من خصوصيتهم المارونية، الى المجال الوطني بالمعنى السياسي للكلمة، من دون الخروج عمّا يرونه مصلحة لطائفتهم ونظامها الاجتماعي والاقتصادي القائم. بمعنى أنّ هذه المصلحة، التي يضعها البطاركة الموارنة، بداهة، في المقام الأول، لا يسعون إليها ضمن سياق ماروني ضيّق، وإنّما في سياق وطني أوسع، وبما يضمن الحدود القصوى للتوازن في النظام السياسي. وهذه معادلة صعبة أدركها صفير وكنه سرّها، فتمسّك بها على الرغم من هول التحدّيات، لذلك سيكون من الإجحاف بحق صفير وتاريخه ،أن يدفن في سياق ماروني ضيّق شبيه باللحظة السياسية المارونية الحالية.