من دون الدخول في جدلية تعريف وتفاصيل ظاهرتي التآمرية والارتيابية في العقلية العربية الحاضرة، والعوامل المؤثرة فيهما والأسباب التي أدت إليهما, ماضوية كانت أم حديثة, سواء كانت حقيقية أم وهمية مرضية, ومن دون الدخول في كل ذلك وأكثر, فإن ظاهرتي التآمرية والارتيابية تعدان من إحدى الإشكاليات الرئيسية والخطيرة التي تعاني منها العقلية العربية الحاضرة, وعيا وسلوكا, قولاً وعملاً, في تعاملها وعلاقاتها مع نفسها أولا ومع الآخر ثانيا, سواء كان ذلك الآخر فردا أم أسرة أم مجتمعا أم في الإطار الوطني أو المحلي أو العروبي أو الإقليمي أو العالمي.
وهنا نتحدث عن تلكما التآمرية والارتيابية تجاه الآخر العالمي لها كأمة، صحيح بأن تاريخنا العربي القديم والحديث ملئ بتلك التآمرات علينا كأمة. والشواهد كثيرة جدا ومتنوعة وعديدة في ذلك, وصحيح بأنه يجب علينا كأمة بأن نرتاب في الآخر ونشك به ونأخذ حذرنا وحيطتنا تجاه ما يضمره ويخطط له تجاهنا، بما يمثله من خطر جسيم وحقيقي يهدد هويتنا وكياننا وحتى وجودنا كأمة، في إطار منهج علمي ونظرة علمية لذلك كله, إلا أن الخطورة الحقيقية أن تتحول تلك الظاهرة, ظاهرة التآمرية والارتيابية إلى ظاهرة مرضية متجذرة في العقلية العربية الحاضرة تعيقها وتمنعها من التفاعل الإيجابي مع نفسها ومع الآخر أيا كان شكله أو نوعه أو صورته أو موقعه الجغرافي…إلخ.
وتصبح تلك العقلية، أسيرة الذات والماضي, زمنيا ومكانيا, وتصبح قاعدة الشك والتشكيك والتشكك في الآخر ، وبما يقوم به تجاهنا وما يفعله لنا,إيجابا كان ذلك أم سلبا, بإعتبار كل ذلك يهدد هويتها وانتماءاتها وكينونتها ووجودها والتعامل معه في إطار الرفض المطلق له, وعيا قبل سلوكا وتصرفا, وإن لم تستطيع رفضه واقعا,والتعامل معه بإعتباره عدوا حقيقيا يجب محاربته وإزالته والتخلص منه, وهذا كله بالأخير أدى إلى شيوع ظاهرة التعصب بكل أنواعه وأشكاله وتنوعه وصوره وآلياته في حياتنا اليومية الحاضرة, ذلك التعصب الذي أنتج ظاهرة من أخطر الظواهر السلوكية ألا وهي ظاهرة الإرهاب التي أصبحت أمتنا توصف بها من قبل الآخر المغاير لها.
من أهم مظاهر تلك التآمرية والارتيابية, على سبيل المثال لا الحصر, ما يأتي:
أولا: التآمرية والارتيابية الدينية: يتجلى ذلك واضحا من خلال التعامل مع الآخر بما يفعله ويقوم به ويخطط له في الإطارات التي تمس الجانب الديني، سلمان رشدي وكتابه, آيات شيطانية, تحديد عملية التناسل وتنظيمه, مسألة الجندر, الإباحية بكل صورها وأشكالها وأنواعها ووسائلها.. إلخ, أمثلة لذلك, وكأن تلك الأمثلة وغيرها ما وجدت من قبل الآخر إلا لكي تحارب ديننا وتقضي عليه,وكأنها خاصة بنا كأمة فقط وليست منتشرة وموجودة في جميع بقاع العالم وفي مقدمتها تلك البلدان التي نظن نحن بأنها أوجدتها فقط لكي تنال من ديننا.
ثانيا: التآمرية والارتيابية الثقافية: يتجلى ذلك واضحا من خلال الرفض المطلق لكثير من الأعمال الثقافية للآخر, نشرات كانت أم كتب ثقافية أم منتديات ومؤتمرات، وعدم السماح بترجمتها أو قرأتها أو المشاركة فيها…إلخ, واذا حدث وشارك أحدنا فيها أو قام بترجمة أحد تلك الإصدارات إلى لغتنا والتي نظن نحن بأنها وجدت لكي تنال من ثقافتنا فإنه يحارب وينبذ, بل قد يكفر من قبل الجماعات والكيانات المتطرفة ويباح دمه وعرضه من قبلها, مما جعل الكثيرون يتخوفون كل الخوف من عمل ذلك, وبما ينتج عن ذلك من حرماننا من الإطلاع على ما ينتجه الآخر في هذا الشأن ويصدره ويحرمنا من الإطلاع على الثقافات الأخرى والتفاعل معها ويجعلنا أمة منغلقة ثقافيا ومعرفيا, ويحرم ثقافتنا من التجدد والنماء عبر التفاعل مع تلك الثقافات الأخرى.
ثالثا: التآمرية والارتيابية الحضارية والتكنولوجية: يتجلى ذلك واضحا من خلال الرفض المطلق, وعيا وإن لم تستطيع رفضه واقعا, لكثير من الأعمال الحضارية ولكثير من الإختراعات العلمية..إلخ, السينما ,التلفزيون, وسائل التواصل الاجتماعي بكل أنواعها..إلخ, وقبل ذلك الطباعة ولفترة قرون متعددة حيث حرمت من قبل فقهاء السلطات والسلاطين ووعاظعهم وذلك بحجة أن ذلك سوف يؤدي إلى طباعة المصحف الشريف وقد يحدث تزويره نتيجة لذلك, بل إن الكتب الطبية وممارسة الطب الحقيقي ظلت محرمة ولفترات طويلة إلا ما كان منها خاص بالسلطان أو الحاكم عندما يصيبه المرض, بإعتبارها وجدت فقط بغرض النيل من هويتنا نحن كمسلمين عرب فقط وكأمة مسلمة عربية ففط.. إلخ, مما نتج عن ذلك وعبر فترات زمنية ليست بالقصيرة, برغم إجازة ذلك من قبل أولئك الفقهاء..!, إلا عن ذلك حدث في الوقت الذي قد شكلت الوعي التآمري الارتيابي وشكل وفقا لها وعلى أساسها وفي إطارها, ليس تجاه تلك الأشياء فقط بل تجاه الآخر المغاير عموما وتجاه كل ما يصدر منه، وأصبح عصيا على وعينا وعقليتنا كأمة عموما التحرر من ذلك والخلاص والتخلص منه ومن ثم التفاعل الإيجابي معه ومع غيره.
رابعا: التآمرية والارتيابية الاقتصادية: يتجلى ذلك واضحا من خلال الرفض المطلق لكثير من المفاهيم الاقتصادية وخططها.. إلخ, وعيا وإن لم تستطيع رفضه واقعا,العولمة, تحرير التجارة العالمية, الخصخصة, وقبل ذلك التأميم والسيطرة الاقتصادية للدولة واحتكارها من قبلها ,أمثلة لذلك, فيما نحن لا زلنا لم نبلغ ذلك الطور وذلك التطور في العملية الاقتصادية الإنتاجية منها والصناعية وغيرها.
خامسا: التآمرية والارتيابية السياسية: يتجلى ذلك واضحا من خلال التعاطي مع كثير من المفاهيم والمشاريع والأحداث السياسية التي للآخر علاقة بها وذلك بعقلية وقبل ذلك بوعي تآمري وارتيابي من قبلنا, مباشرة أو غير مباشرة.. إلخ, الديموقراطية, التعددية الحزبية والسياسية, الإنتخابات, الدساتير, المفهوم المدني للدولة, حقوق الإنسان عموما والمرأة خصوصا والطفل, ثورات الربيع العربي مؤامرة عالمية, داعش مؤامرة عالمية, القاعدة مؤامرة عالمية..إلخ. كل تلك المظاهر وغيرها. تعتبر في العقلية العربية الحاضرة وفي الوعي العربي الجمعي الإجتماعي عموما والنخبوي منه على وجه الخصوص وفي غالبيته وليس خاصا بنخبة محددة دون غيرها,بل بغالبية إن لم يكن بجميع النخب المؤثرة في أمتنا, إسلاموية وقومية وأممية وحتى تلك التي تدعي العلمانية منها, وهنا الكارثة الحقيقية والإشكالية الخطيرة, مؤامرات ودسائس تحاك من قبل الآخر ويخطط لها ويعمل على تنفيذها وبالتعاون مع قوى وطنية ومحلية عميلة له وذلك كله بغرض إزالتنا كأمة ومحونا من الوجود ومنعنا من أن نحكم العالم ونسيطر عليه مجددا , بإعتبارنا كأمة الوحيدين المؤهلين لذلك وعلى حساب وجودهم.
لذلك لزم الأمر عليهم بأن يقوموا بكل ما يقومون به تجاهنا كأمة ,لأن الصراع بمنظور العقلية العربية الحاضرة وبمنظور الوعي العربي…مع الآخر هو صراع وجود مستدلين على ذلك ب, كتاب, نهاية التاريخ والإنسان الأخير , لفرنسيس فوكوياما, وكتاب, صدام الحضارات أو صراع الحضارات, لصامويل هنتنجتون.. إلخ.
كل ذلك يتخذ شكلا عاما ويأخذ منه إسما عاما, ألا وهو “التآمريييية والمؤمراتية الحضارية” من قبل الآخر المغاير على حضارتنا كأمة, سواء تلك التي كانت أو تلك سوف تكون حلما طوباويا في وعينا وعلقيتنا, وذلك عبر التشكيك في تلك التي كانت وكذلك منعنا من إيجاد حضارة جديدة!
الخلاصة: إنني شخصيا لا أنفي عدم وجود تلك وتلك، بل إن كل مجتمع من المجتمعات وكل شعب من الشعوب وكل أمه من الأمم تتعرض من قبل مثيلاتها من المجتمعات والشعوب والأمم لتلك التآمريييية والمؤمراتية، في إطار الصراع فيما بينها وفقا لمصالحها وما يخدم تلك المصالح, وهذا يعتبر شيئا طبيعيا ولا يمكن نكراه أو غض الطرف عنه, بل الريبة فيه, بخاصة عندما يكون هنالك طرفا قويا وطرفا أضعف.
لكن, أن تتحول تلك الظاهرة في الوعي والعقلية للأمة إلى ظاهرة مرضية متجذرة في وعيها وعقليتها, ولا تستطيع الخروج من ذلك عبر التمييز والتفريق بين تلك التآمريييية الحقيقية وتلك الوهمية, فتلك هي الإشكالية الخطيرة التي يتوجب علاجها.
يقول تعالى في كتابه الكريم:”إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ”.
ويقول أيضا: “إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ”.
ويقول: “أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ”.
ويقول كذلك: “كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ”.. صدق الله العظيم.