مقالات

التشدد المذهبي يتوارى على أعتاب فلسطين!

“المدارنت”..
كان لطوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023 فعل السحر، في تهيئة الأجواء، لحالة من التعايش السلمي الحقيقي بين المذاهب الفقهية الإسلامية، من أقصى العالم الإسلامي إلى أقصاه، ذلك أن التشدد على الجانبين (السني والشيعي) بشكل خاص، قد تراجع خلال شهور الحرب، إلى أدنى مستوياته، خصوصاً مع تصريحات قادة المقاومة في قطاع غزة، عن الدعم الذي يتلقونه من إيران، بالتزامن مع جبهة الإسناد عن طريق المقاومة اللبنانية في الجنوب، وجبهة الدعم الحوثية من اليمن، وأيضاً من بعض الفصائل فـي العـراق.
في بداية الحرب كانت حالة التشدد واضحة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي بشكل خاص، تؤججها «كتائب إلكترونية» يظهر فيها جلياً دور الكيان الصهيوني، كما جرت العادة في مثل هذه الظروف، إلا أنها لم تستطع الصمود، مع تطور مسار الأحداث، والتضحيات على مختلف جبهات الإسناد والدعم، المتشددون على الجانبين لم يجدوا متسعاً يستوعب سمومهم، المستقلون، أو الوسطيون أغلبية بطبيعة الحال، لا يتقبلون مثل ذلك التطرف، ما بالنا في زمن الأزمات أو الحروب، المصلحة العامة تصبح الشغل الشاغل، الأولويات تفرض نفسها، من هنا توارى هؤلاء وأولئك.
النتيجة النهائية هي أن فلسطين تستطيع فرض الوسطية الإسلامية على العالم العربي، من دون تشدد أو تطرف، الالتفاف حول القضية الفلسطينية يمكن أن يكون علاجاً لحالة التشرذم، القدس يمكنها توحيد المواقف، الأقصى يمكنه لم الشمل، بعد أن تخلى آخرون عن المهمة، لتصبح القبلة الأولى بوصلة التضامن والتلاحم، بعد عقود طويلة من الصدام، وتوجهات غريبة للانحلال المقيت تارة، وللتطبيع الكريه تارة أخرى، في غياب المؤسسات المنوط بها قيادة الحالة، لحسابات سياسية ضيقة، أو تعليمات خارجية لم تكن في يوم من الأيام نصيراً لقضايا الأمة.
ثبت بالدليل القاطع أن العالم العربي في حاجة لقضية يلتف حولها، وثبت أن القضية الفلسطينية هي الأمل، ستظل قضية العرب الأولى، تحت عنوان «الصراع العربي الإسرائيلي» وهو العنوان الذي توارى عن عمد خلال السنوات الأخيرة، بعد أن أطلق البعض عنوان «الصراع الفلسطيني الإسرائيلي» على الحالة الراهنة، في محاولة للتخلي عن المسؤولية، أو لتنفيذ مخططات خارجية، لم يستوعب البعض مغزاها بالمعنى الأشمل للمخطط، فقدت معه الأمة ككل، مقومات النخوة والشهامة والتعاضد، لحساب رضى من هذه العاصمة، أو دعم هش من هذا الكيان. ولأن الخلاف المذهبي، هو أخطر وأسهل ما تستغله القوى الخارجية للوقيعة بين الطوائف المختلفة، بدعم ما أطلقت عليه «الهلال الشيعي» في مرحلة ما، أو تسليح ما تطلق عليه «العواصم السنية» في مرحلة أخرى، في إطار ما تعرف بلعبة «الكراسي الموسيقية» وتبديل الأوضاع، طبقاً لتقديرات الحالة، فإن مهمة الإنقاذ تصبح فرضاً على المؤسسات المعنية، وفي مقدمتها الأزهر الشريف، رابطة العالم الإسلامي، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وغير ذلك من مؤسسات مشهود لها بالاعتدال، حتى لا يصبح الرأي العام فريسة للتطرف والتشدد من جهة، وحتى يمكن التصدي لغباء بعض الفاعلين السياسيين على الساحة من جهة أخرى. وربما كان النموذج الصارخ في هذا الصدد، هو الأزمة المحتدمة الآن في الشارع المصري، داخل المذهب الواحد، بين فريق ممن يطلق عليهم الدعوة السلفية من ذوي اللحى، ينكر على الأشقاء الفلسطينيين، جهادهم ونضالهم من أجل تحرير الأرض، بزعم عدم القدرة على مجابهة العدو، وذلك في مواجهة شيخ الأزهر، وهيئة كبار العلماء، الذين ينادون طوال الوقت بالجهاد لتحرير فلسطين، وضرورة دعم المقاومة، واستنكار أي محاولات للوقيعة بين الطوائف والمذاهب المختلفة، وقد رأينا الكثير من القوافل الضخمة التي سيرها الأزهر إلى الأشقاء في قطاع غزة، محملة بالمساعدات الغذائية والدوائية.
أعتقد أن الأمة العربية، في حاجة الآن، للبناء على الحالة الإيجابية بالشارع، خلال شهور المواجهة الفلسطينية مع الاحتلال، منذ أكتوبر 2023 حتى الآن، ببذل مزيد من الجهود، لترميم ذلك الشرخ الذي كان واضحاً في جدار العلاقات داخل القطر الواحد، كما شاهدنا في سوريا والعراق بشكل خاص، أو بين اقطار مختلفة بالمنطقة، كما شاهدنا بين إيران وعدد من دول الجوار، بما يقطع الطريق على أي محاولات داخلية متطرفة، أو خارجية مغرضة، لإشعال نيران التعصب هنا أو الحقد هناك، بعد سنوات من القلق والتوتر، بل الصدام في بعض الأحيان.
في الوقت نفسه، تصبح الأنظمة السياسية، مطالبة بإعمال لغة العقل والمنطق، واعتماد المواطنة، سبيلاً وحيداً للاستقرار والتنمية، أياً كانت الهوية الدينية والطائفية لهؤلاء، أو الهوية السياسية والعرقية لأولئك، وهو الأمر الذي يتطلب ميثاقاً عربياً موحداً في هذا الصدد، من خلال جامعة الدول العربية، كجهة رقابة بصلاحيات واسعة، بدلاً من إيلاء الأمر لمنظمات دولية، أو عواصم وصاية خارجية، ستجد الفرصة سانحة لإقحام نفسها في الشؤون الداخلية لدول المنطقة، سواء بالابتزاز أو التهديد بعقوبات، أو التدخل المباشر، وما إلى ذلك من خيارات مفتوحة، أضرت كثيراً بالعديد من البلدان في السابق.
أعتقد أن الموقف الرسمي والشعبي العربي حالياً، الرافض للعدوان الصهيو- أمريكي على إيران، أو استخدام الأراضي العربية للانطلاق في هذا الشأن، خصوصاً ما صدر عن المملكة العربية السعودية تحديداً، هو موقف مسؤول، يمكن أيضاً البناء عليه، بفتح صفحة جديدة، من العلاقات بين دول المنطقة جميعها من جهة، خصوصاً بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي، وداخل كل بلد على حدة من جهة أخرى، في ضوء الأوضاع الملتبسة في سوريا تحديداً، وما يتواتر من أنباء، بشأن عمليات تصعيد من هنا أو انتقام من هناك، في غياب جهود عربية فاعلة في الشأن السوري بشكل عام. في كل الأحوال، يجب التعامل مع المتغيرات من حولنا بطرق ووسائل أخرى خارج الصندوق، أو بمنأى عن الفكر التقليدي، الذي اعتدناه طوال عقود طويلة مضت، وذلك بالتعامل مع الجبهة الفلسطينية، باعتبارها جبهة لم شمل الأمة الإسلامية قاطبة، وليست العربية فقط، من كل الطوائف وكل المذاهب، ما يستوجب الدعوة لعقد اجتماعات القمم والمنظمات على أرض فلسطين، تارة في الضفة الغربية، وتارة أخرى في قطاع غزة، وتارة ثالثة في القدس الشريف، حتى إن تطلب الأمر نقل مقرات المؤسسات العربية والإسلامية إليها، حتى يعي المحتل أن فلسطين هي جامعة العرب، موحدة القلوب والأفئدة، وثالث الحرمين الشريفين، التي لا يمكن التنازل عنها، بحكم عوامل عديدة، خارجة عن صناعة وأهواء البشر.
وربما كانت الساحة الدولية، مؤهلة الآن، أكثر من أي وقت مضى، لاستيعاب الرؤية العربية والإسلامية، تجاه قضايانا بشكل عام، والقضية الفلسطينية بشكل خاص، وهو أحد ثمار طوفان الأقصى، أو بتعبير أدق، أحد ثمار صمود الشعب الفلسطيني، ما يحتم التحرك في هذا الاتجاه، من خلال أدوات دبلوماسية وإعلامية، غابت عن الساحة إلى حد كبير، فلم تواكب تلك الأحداث الجسام، التي فقد معها الشعب الفلسطيني الشقيق، ما يزيد على 60 ألفاً من الشهداء، و115 ألفاً من الجرحى، في فترة زمنية غير مسبوقة في عمر حروب الإبادة، التي عانى منها الشعب الشقيق، على مدى ثمانية عقود، كان خلالها مثالاً للتضحية والفداء، ونموذجاً للإيمان بوعد الله الحق بالنصر، وهو ما جعل من فلسطين غاية وضمير المسلمين بحق، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم.

عبد الناصر سلامة/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى