التنوير و”الإيديولوجيا” التنويرية*!
خاص موقعيّ “المدارنت” و”ملتقى العروبيّين”
أظهرت تجربة فشل النخب السياسية السورية في قيادة الثورة السورية التي انطلقت في العام 2011، الحاجة الى طراز مختلف من النخب، نخب تمتلك الفكر السياسي والاستراتيجية الواقعية من جهة، والقدرة على الذهاب نحو الشعب والتفاعل معه وكسب ثقته وحشده باتجاه الأهداف المرحلية، من جهة ثانية.
مثل تلك النخب لن تولد في الغرف المغلقة، ولا في تكرار الجدالات العقيمة، وهي لن تأتي من النخب السورية التي صعدت إلى السطح وفشلت في الممارسة السياسية في المرحلة السابقة، ثم فشلت ثانية في الاعتراف بفشلها، وتقديم نقد ذاتي حقيقي لأخطائها السياسية الرئيسية المرتكبة.
إعادة الاعتبار للفكر السياسي ولدور الإستراتيجية التي تنبع من تحليل الواقع وموازين القوى الاقليمية والدولية، هي أولى الخطوات التي يمكن تصورها في ولادة نخب سياسية سورية جديدة.
وفي هذا السياق، يحتاج الأمر الى نقد العقل وطرق التفكير التقليدية التي تراوحت بين “الايديولوجيا” البعيدة عن الواقع، والتكتيك السياسي الذي يهتم باللحظة الراهنة ولا يمتلك رؤية أبعد ممن ذلك.
لكن المشكلة، تكمن أحيانا في ترجيعات الفكر السياسي نحو “الايديولوجيا”، كنوع من حنين خفي لذلك الشغف التي يشبه الإدمان في إضفاء الشمولية، وشيء من القداسة على نمط محدد من الفكر السياسي، ليتحول إلى ما يشبه الايديولوجيا”.
فالتنوير الذي يعني مراجعة العقل العربي الموروث، ووضع الإصبع على طرق التفكير التي جرى تناقلها، من دون أن توضع تحت مجهر النقد، هو من دون شك ضرورة لابد منها لفهم الواقع وبناء الاستراتيجية الصحيحة لتغييره.
وفي هذا السياق، ولكون العقل العربي الموروث قد تكون في رحم الثقافة الإسلامية السائدة منذ مئات السنين، فلا بد من وضع تلك الثقافة أيضا موضع النقد.
والثقافة الاسلامية، ليست الإسلام، كدين، بل هي المفاهيم الثقافية التي اتخذت من الدين الإسلامي، غطاء لها، حتى أصبحت في نظر الناس جزءا لا يتجزأ من الاسلام.
وهنا تصبح مهمة التنوير الفصل بين جوهر الاسلام، كدين، وبين تلك المفاهيم التي لحقت به عبر العصور المديدة السابقة.
لكن المشكلة تأتي من تعظيم تلك المهمة التي لا يمكن الاستغناء عنها، وعزلها عن المهام الفكرية والسياسية الأخرى، واعتبارها شرطا تاريخيا لا بد من إنجازه، قبل الانتقال لأيّ حركة تستهدف التغيير. وأخيرا تصور إنجازها بطريقة نخبوية مغلقة.
فحين تخرج فكرة التنوير عن سياقها الواقعي، نحو ما يشبه النزعة التبشيرية يرتد التنوير ليصبح دينًا جديدًا، ولا يعود أتباعه مهتمين بما يجري حولهم من أحداث مهما كانت خطيرة ومأساوية تتطلب التفاعل السياسي، وتحديد الموقف والمهام المطروحة والممكنة، ويجري استبدال ذلك كله بترجيعات تعيد كل الخيوط نحو نقطة واحدة هي التنوير، بصورة مماثلة لمن يطرح في السياسة شعار: ”الاسلام هو الحل“.
مثل ذلك التحول ليس سيئا فقط، لكونه ينحو بالفكر السياسي للعودة لحظيرة “الايديولوجيا”، ولكن أيضا لنتائجه في الواقع، فهو يشكل جسرا للتفاهم مع الواقع السياسي والاعتراف الضمني به، فطالما أن التنوير لم يتم إنجازه لا على صعيد النخب، ولا على صعيد الشعب، فلا معنى للنضال ضد الاستبداد، بل إن التغيير السياسي سيحمل معه كل العوامل السلبية في المجتمع من طائفية وقبلية ومناطقية، فالحل أن نقوم أولا بتغيير العقل العربي السائد لدى النخب، ثم لدى الجمهور، وبعد إنجاز تلك المهمة، يمكن التفكير بالتغيير السياسي الذي سيكون وقتها مضمونا وأمينا.
مثل ذلك التفكير لا يختلف كثيرا عن شعار: ”الاسلام هو الحل”، فالتنوير لا يمكن إنجازه في غرف مغلقة تحت الأرض، ثم نقله الى الشعب بطريقة تشبه التبشير في ظل أزمة خانقة تهدد وجود سوريا، وتتطلب توحيد كل جهود السوريين من أجل هدف مرحلي وطني ديمقراطي واضح.
أيضا، إن تحويل التنوير إلى دين جديد أو “ايديولوجيا”، سيخلق انقساما جديدا بين تنويريين وإسلاميين، يعزز الانقسام بين عَلمانيين واسلاميين، هذا الانقسام الذي كان على مدى تاريخ سوريا الحديث، بمثابة ثقب أسود يبتلع طاقة السوريين، كما الانقسامات العمودية الأخرى.
وبقدر ما نحن بحاجة لعنصر التنوير في تشكيل نخب سورية جديدة، فنحن لسنا بحاجة إلى “ايديولوجيا”، تنويرية، تحيل كل المهام التي يطرحها الواقع نحو مهمة واحدة وحيدة، تضع نفسها كبوابة تاريخية مفروضة على مستقبل خلاص سوريا، وحريتها، واستعادة وحدتها وبناء نظامها الوطني الديموقراطي.