“الثورة السورية” المنكوبة بنخبها..!
“المدارنت”..
في كتاب نظام التفاهة، يقول الكاتب الكندي، ألان دونو: إن الأنظمة الفاسدة تخلق ما يسمى بـالـ”ميديوقراطيا” أي نظام الرداءة، وهذا النظام يفرز نخب من نوع جديد، لا يجمعها سوى الجهل والفساد وضيق الأفق، فينتج منه ما يسمى نخبوية الرداءة، وهي منظومة تشجع الرديئين، وتعلي من شأن من ليست لديهم كفاءة في المجتمع ومن ليس لديهم قيمة فتقلب القيم والأعراف والقوانين وبذلك تغيب الجدارة ليحل محلها تفضيل الموالين والأنصار والأقارب في مفاصل مؤسسات البلاد، وتمكينهم من شتى الوظائف دون خبرة ولا مؤهلات.
الكفاءات الحقيقية
وتسود ضمن نظام الرداءة علاقات المحسوبية و الزبونية والشخصنة مع إقصاء تام لذوي المبادئ والكفاءات الحقيقية، وتشجيع تسلق قضايا الشعب والتملق للقيادات وذوي المناصب للحصول على العطايا والمكاسب، ونظام الرداءة ينخر كل مؤسسات وأجسام المعارضة السورية على اختلاف مسؤولياتها، وهذه المؤسسات أصبحت دكاكين تعمل على تعظيم قادتها ومدرائها والذين لا قيمة لهم في مجال الثقافة والفكر والمواطنة، باستثناء قوة المال الذي يملكونه والجهة التي تحميهم، وزيادة تغوّل الأنا عندهم.
وما يزال حجم الرداءة في دكاكين المعارضة يكبر وتزداد وتنتشر الممارسات السياسية والاجتماعية الفاسدة وما يتخللها من هيمنة نخب غير مؤهلة وغير متزنة ينقصها الضمير والإرادة، وتستمد قيمتها من مناصبها او من خلال تبعيتها للآخرين، فلا تعبر قراراتها وسياساتها ومسلكياتها إلا عن حالة التبعية والخواء وقد وجدت نفسها في مواقع القيادة والمسؤولية، نتيجة تسلقهم في صفوف الثورة السورية التي تربص لها كل الأعداء.
في حين، تناسلت نخب الرداءة بلا متارس ودون حارس، ونخرت الميديوقراطيا عقول الساسة والقادة، وحين تكون التفاهة نظاما يكون من الصعب مواجهتها، حينما تصبح هي السلطة والقوة العسكرية والنخب المدنية والسياسية، ويصبح المجتمع بمثابة دمية يُحركها ذلك النظام لتحقيق مأربه.
لقد كانت الثورة السورية، إيذانا بمرحلة استبشر بها الجميع خيرا ومخرجا طال انتظاره لوضع حد لنظام مستبد حكم سوريا بالنار والحديد لعقود من الزمن، ولكن الثورة كشفت عن هشاشة وانتهازية النخب في المجمل وعدم جاهزيتها للتفاعل الإيجابي مع الحالة الثورية بفعل عوامل ذاتية قبل أن تكون موضوعية، وهو ما جعلها تضيع فرصة تاريخية للتغيير في سوريا قلما تتكرر.
واقتصر دور النخب باختلاف إيديولوجياتها على الانفعال بالأحداث والاكتفاء بالتعليق عليها دون أن تملك القدرة على التأثير فيها، ولم تكن مؤهلة للتعاطي مع الثورة، ولم تكن تخطو أي خطوة إلا بإشارة من أولياء نعمتها، في وقت كانت فيه تمني نفسها بمنقذ تستدعيه من غابر التاريخ أو من مستقبل تتخيله، ولم يدر بخلدها أبدا أن يطلب منها أن تكون هي ذلك المنقذ، وكان جل ما كانت تطمح إليه أن تبقى مشاريعها على قيد الحياة وأن تؤجل مهمة التغيير وينتظره الشعب كهدية من لجان التفاوض والدستور برعاية حلفاء الأسد.
فيما انصب مجهودها على تثبيت وضعها وخلق توازنات جعلتها تجد صعوبة في الخروج عن المألوف بعد أن اطمأنت لوضعها ولأساليبها وبالمقابل أضحت تكتيكاتها مكشوفة يسهل قراءتها وتوقعها، وهو ما أوقعها في تناقضات كثيرة سهل استثمارها فيما بعد من طرف نظام الأسد.
خطابهم وبياناتهم لم تتجاوز أدوار التنفيس، فمحاربة نظام الأسد عندهم مجرد شعارات فضفاضة عامة تنسب للمجهول أحيانا وأحيانا أخرى تقتصر على التركيز على حالات معزولة لا ظهر لها ولا سند واستجداء لتدخل خارجي.
وهيمن الإسلام السياسي نفسه على سلوك جل النخب وتياراتها واحتفاظها بشعاراتها الراديكالية ليزداد الشرخ اتساعا بين واقع ممارستها وأدبيات الثورة، في حين لم تكن الثورة السورية مصطنعة، كما يزعم المسكونون بنظرية المؤامرة، بل تعرضت للتوظيف الخارجي الإقليمي والدولي، ومن تسيدوا قيادتها ليسوا مؤتمنين على حمايتها وعلى الوصول به إلى تحقيق آمال ومطالب الشعب الثائر، مما أفقد جلهم مبرر وجودهم وأهلية تمثيلهم، ففي جميع الثورات الشعوب تعني الفطرة والنخب الفكر والعقل، ويأتي دور النخب لتوجيه الشعب
نحو أفضل الطرق لتحقيق هدفه المنشود وبناء ما دمره النظام، ولكن الثورة السورية ابتليت بمعارضة وقيادة في مختلف المجالات ذات نخب بدائية الأنفس ضباع على وطن دمره الأسد وثقافتها أدنى من ثقافة الشعب وهمها الشراكة مع النظام في الحكم.
جوقة عازفين
فالثورة وسيلة وليست غاية، هكذا ينبغي أن تكون وهكذا أرادها الشعب السوري للوصول إلى غايته ونيل حريته وكرامته، ضياع الثورة والبلاد تبعا لها، أن الذي سرقها وتوسد قيادتها ومعهم جوقة عازفيهم قد اتخذوها غاية وامتهنوها كصنعة وروجوا لها كهدف في ذاتها وصاغوا على هذا الأساس شعاراتها، في حين أن الشعب الثائر كان يريدها وسيلة لواقع أفضل، وكان سدرة منتهى من تسيد قيادتها أنه انضم لصفوف الثورة، فإذا سألت أحد قادتها ما هي إنجازاتكم قال لك: شاركت بالثورة..!
وكأنه شارك بها ليحصل من خلالها على مناصب ومكاسب، وهذا فهم مغلوط للإنجاز، فالإنجاز هو في إجابة السؤال، ماذا فعلتَ بالثورة؟ وليس سؤال، هل شاركت وقُمتَ بالثورة؟!
فالثورة التي لم تقتلع نظاما مستبدا وتسيدتها قيادة تفتقد الإرادة ومسيرة من الخارج مارست العقلية ذاتها وارتكبت الأخطاء نفسها تمكينا وفشلا واختطافا للقرار والسلطة، بل ومارسوها بصورة تشابه المستبد الذي ثار عليه الشعب من خلال تداول السلطة والانتخابات وإعادة تدوير شخوصها بالمناصب.
التواجد بصفوف الثورة والتقنع برايتها لا يمكن أن يعد إنجازا، ولا يجوز وصفه كذلك، وقد أصبح هذا التواجد وبالاً على أهلها الذين أرادوا أن تكون لهم الثورة خيرا وازدهاراً، في حين القيادات وبمختلف الجوانب لم يحسنوا استغلالها كوسيلة وجعلوها غاية.
وكثير من المعارضين النفعيين اتخذوا من الثورة وسيلة للحصول على دخل كاف واسم تحول إلى تاجر، فتح دكانة بيع عناوين يرتادها المريدون وطلاب المصالح.
وبفضل نخب الرداءة أصبح الشعب السوري، لا يعرف حدود المكان ولا مدى الزمان لسلطات الواقع التي تحكم جغرافيا البلاد ولا حدود بين ماضيه الذي أراد الخلاص منه وحاضره المعاش، والنخب تفتعل الأزمات بخبرة ومهارة، واكتشف الشعب أنها لا ترى ما يراه، ولا تحس بما يشعر به من معاناة، ولا تقبل رأياً آخر ولا نقدا بأي حال من الأحوال، لا تسمع إلا صوتها، أما مناداة الشعب ومظاهراته فقد جعلتها تتردد في سوق المزايدات وتفسيراتها الموبوءة لها، على أنها ليست أكثر من صيحة في واد.
ندوات ومؤتمرات
نخب الرداءة تريد من النخب المثقفة أتباعاً، ومطبلين لفشلها وأدوات تجميل لفسادها، ومن المظاهر اللافتة عند النخب التي تسلقت للصفوف الأولى بالثورة السورية أنها تلعب دور النخبة والجماهير معا لتخفي تلون وجوهها، تكثر من الندوات والمؤتمرات المزدحمة بالمصطلحات، التي بعضها لا ينطبق على ما تريد وصفه ويهاجمون اللصوصية والفساد ويتحدثون عن الشفافية والحوكمة، ويوهمون الشعب أنهم قاموا بأعمال ثورية لا مثيل له، والحقيقة إنهم يمارسون ثرثرة فارغة.
وترى ذلك جليا من خلال قيامها بدورات وندوات حول التنمية السياسية، ويغيب عنهم أن السياسة فرع من الحرية التي نادى بها الشعب، وهم بذلك يشبهون النظام الذي ثار عليه الشعب، يريدون
الفرع الذي يقيمون به تلك الندوات المأجورة من دون الأساس، وهذا ما كان يسميه نظام الأسد “التوجيه السياسي” وهو نهج معروف ابتدعته الدول الاشتراكية، حيث كانت تفرض مناهجًا سياسية على شعوبها، وطمس الحقائق الأخرى، ونظام الرداءة يتبع هذا التوجيه نهج إشغال المجتمع عن السعي لنيل حريته.