“المدارنت”..
كأن غاستون باشلار وضع كتابه (الأرض وأحلام يقظة الراحة) في الخمسينات من القرن العشرين، لكي نقرأ ثنائية (يونس) و(المغارة) في رواية (باب الشمس) في العام 1998، للروائي إلياس خوري، بطريقة فلسفية تأويلية.
غير أن صاحب (رائحة الصابون) لم يكتب هذه الرواية بأي محمولات صعبة معقّدة من نوع ما يذهب إليه باشلار أحياناً، وإنما الرواية قصة حب بين يونس الأسدي وزوجته (نهيلة)، وتجري تفاصيل هذه القصة في مغارة تسمّى (باب الشمس)، غير أن هذا الحب قد احتاج إلى روح إنسانية عظيمة تمثلت في شخصية (يونس) الذي ظل يقطع الجبال لكي يصل إلى فلسطين في رحلة عودة إلى وطنه، وليس في رحلة خروج من هذا الوطن.
الرواية تحوّلت إلى قرية.. قرية حقيقية من بيوت وبشر وأشجار حين أسّس الفلسطينيون فعلاً قرية في المكان الذي جرت فيه بعض أحداث الرواية في تلك المغارة، وهي المرة الأولى في تاريخ الأدب التي تتحول فيها رواية إلى مكان وزمان فِعْليَين كتحية نبيلة للمؤلف اللبناني الذي تجري في عروقه وأعصابه دماء عربية فلسطينية.
مع ذلك، ويا للمطابقة العجيبة، دعنا نقرأ باشلار في ثنائية قصة يونس الذي مكث في بطن الحوت، ثم نقرأ بطن المغارة وتأويله الظاهراتي الذي من الممكن أن نجده في رواية (باب الشمس).
يرى باشلار أن بطن الحوت هو ملجأ أو كان ملجأ ليونس. إنه كما يقول جوف مضياف، ولكن المكوث في بطن الحوت لن يدوم إلى الأبد، سيخرج يونس إلى الحياة.. إلى الشمس، ويظل باشلار يقرأ هذه الصورة.. صورة يونس في البطن أو في الملجأ أو في الكهف إلى أن يصل إلى صورة المغارة.
يقول باشلار: «.. أن نقيم في المغارة هو أن نبدأ تأمّلاً أرضياً، هو أن نشارك في حياة الأرض.. في رحم الأرض الأمومية ذاتها..».
ويضيف في مكان آخر.. «المغارة هي المسكن الذي لا باب له، فلا نتسرع في تخيل أننا نغلق المغارة ليلاً بصخرة ندحرجها لننام فيها بسلام. إذ يحتاج جدل الملجأ والرعب إلى الانفتاح. نريد أن نكون محميين لكننا لا نريد أن نكون مسجونين..».
ويقول أيضاً إن المغارة ملجأ نحلم به دون توقف، وإن صور المغارة تتعلّق بخيال الراحة، وفي المغارة يبدو أن الظلام يتلألأ.
بالطبع هناك فرق وجودي وفكري بين مغارة باشلار ومغارة باب الشمس. الأخيرة التي تهمّنا هنا مغارة فلسطيني يربّي الحب ويحنو عليه في ظلام يتلألأ، وهو يونس الذي ينتصر على الظلام بالشمس، وينجب سبعة من الأبناء، وأخيراً، تتخذ الرواية شكلاً بالغ الواقعية بعد موته، حين تتحوّل إلى قرية أظنها تحتفي الآن بالنبيل العربي.. والحجر الكريم إلياس خوري.
مقالات