مقالات

الرقصة الأخيرة في بيروت.. تحية إلى الياس خوري في أربعينيته

آية الأتاسي/ سوريا

“المدارنت”..
لعلّي كنت من المحظوظين الذين منحتهم الحياة، فرصة التعرف على الكاتب الراحل الياس خوري شخصياً، ورغم أنني، عادة، كنت أتجنب اللقاء بكتاّب أحب ما يكتبون، كي أحمي صورتهم من التشوّه وأحمي نفسي من الخيبة.
لكن الياس خوري أثبت فشل نظريتي، فهذا الرجل يشبه نفسه وكتبه وشخوصه، حتى يبدو وكأنه خارج للتو من سطور روايته. من دون أن يعني هذا أنه رجل كلمات، بل كان بحق مثقفاً ملتزماً بالمعنى الإنساني للكلمة، فقد دافع عن الحق والعدالة، وتماهى دائماً مع المستضعفين ضد الظلم والاستبداد.

عندما أستذكر الياس خوري، أستعيد كل ما أحبه في حياته، ابتداءً بجدته التي تعلم منها المعلقات وحفظها عن ظهر قلب، فصار حفيد امرؤ القيس. مروراً بأصدقائه الأربعة، الذين كانوا أدلاءه إلى فلسطين، وأعني بهم أميل حبيبي، غسان كنفاني، محمود درويش، وإدوار سعيد الذي كان أيضاً دليله إلى نيويورك. المدينة التي علّم في جامعاتها ثم يعود في نهاية المطاف إلى بيروت، حيث ولد وقاوم وعاش في حيّ الأشرفية أو الجبل الصغير كعنوان روايته عنها، والحقيقة أنه لم يستطع يوماً مغادرة مدينته الساحلية، رغم إحساسه في كثير من الاحيان بالاغتراب في مدينة تشوهت بفعل الحروب والفساد، ولكنها ظلت دائماً قادرة على استقبال الغرباء على أراضيها.
وغني عن القول إن الياس خوري، كان مثقفاً كبيراً، ومطلعاً نهماً على النتاج العالمي في الرواية والفكر، ورغم موقفه المبدئي والحاد في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، لكن اتساع الأفق لديه جعله يقرأ للمؤرخين الجدد في إسرائيل، وينحاز بالدرجة الأولى لإيلان بابيه، الذي كتب عن التطهير العرقي في إسرائيل، وطرد على أثرها من إسرائيل.
كان خوري شديد الاعجاب بالروائي الفرنسي فلوبير، الذي كتب روايته الخالدة «مدام بوفاري»، ويصرح في النهاية: مدام بوفاري هي أنا. أما الياس خوري فقد كانت شخصياته تؤلفه كما كان يؤلفها، فتجعله يتكلم السريانية في رواية «يالو»، أو ينطق بالعبرية في ثلاثية «أولاد الغيتو»، بل يدخل الغيبوبة في آخر أيامه، كبطله يونس في «باب الشمس».

ويصح القول إن خوري، كان يعيش حقاً مع شخصياته ويصدقها إلى أبعد الحدود، وأحياناً يقع في غرام بطلاته كبطلته ميليا في رواية «كأنها نائمة»، التي كانت تنام كأنها تموت وتحلم كأنها تحيا، وعندما ماتت كانت كأنها نائمة. ولعل سعادته المطلقة كروائي كانت عندما يصدق قراؤه أيضاً أن شخصياته من لحم دم، كأن تصدق قارئة شخصية نهيلة في «باب الشمس»، وتكذب كاتبها الياس خوري.
والأجمل ربما في أدب خوري، عندما يتحول الياس خوري إلى شخصية روائية، كما في رواية: «اسمي آدم»، حيث يتهم آدم الروائي الياس خوري بالكذب. وليس غريباً أيضاً أن تخرج شخصية من رواية، لتتابع حياتها في رواية أخرى، كما حدث مع خليل أيوب الذي عاود الظهور في: «رجل يشبهني»، بعد مغامراته في رواية: «باب الشمس». وسيبدو هذا متوقعاً لأن الياس خوري الأدب كان يرى الأدب مرآة للواقع، بل إن الواقع تحول في أحيان كثيرة إلى مرآة للأدب أيضاً. حتى يحار المرء بين الواقع المتخيل والحقيقي، كأن يعثر أحد القراء في أحد بارات بيروت على امرأة تشبه المومس العجوز أليس في رواية: «رحلة غاندي الصغير»، أو يظهر رجلاً يشبه خليل أحمد جابر في شوارع بيروت، وهو يطرش الجدران بالدهان الأبيض، مرتدياً معطفا طويلا وقبعة تماماً كبطل رواية «الوجوه البيضاء»، بل وصل الأمر إلى تشييد قرية من الخيم في شرق القدس، وأطلق عليها الناشطون اسم «باب الشمس»، وأصبح الروائي مواطناً فخرياً فيها، أو عراباً لها، رغم إن الاحتلال الصهيوني هدمها واقتلع خيامها، لكن الأثر بقي حاضراً، أثر الأدب في تشكيل الوعي وتغيير الواقع.

عاش كي يكتب
كان الياس خوري، يعيش كي يكتب، ولم يكن فقط يكتب كي يعيش، ولعل الحياة بكل زخمها عاشها حقيقة في الأدب، ومن خلال الأدب استطاع الكتابة عن مدن لم يزرها، وجعل من المهمشين أبطالاً لرواياته، فهو كان يرى في كل إنسان بطلاً لقصة تبحث عن كاتبها.
ولعله كان يرى شخوصه بقلبه ولعله كان يرى بعين الحب التي صارت له عيناً ثالثة، بعد أن أصيبت عينه خلال الحرب الأهلية. خف بصره بعدها، لكن البصيرة للحرية والعدالة زادت حدتها، ورغم أن الإصابة حدثت في شبابه إلا أن الخوف من العمى ظل يراوده خلال حياته، ولعل حبه لبورخيس والمعري يعود إلى أنهما تحديا العمى بنظرة فلسفية عميقة للحياة والأدب.
وبهذا المعنى خلق خوري شخصية مأمون الأعمى في «باب الشمس»، وجعله المبصر والشاهد على المجزرة. وكان يغسل عينيه بماء الحزن الذي يتدفق دمعاً يداريه أمام الآخرين، ويسكبه وحيداً خلف مكتبه متذكراً صديقاً رحل، أو شخصية ماتت بين دفتي رواية يكتبها. أخيراً لا بد من الإشارة إلى أنه في الكثير من رواياته، اعتمد على التوثيق والأرشفة لقضية فلسطين والحرب الأهلية اللبنانية، لكنه حافظ دائماً على الامتاع والمؤانسة، وتميزت لغته بغناها، وبانسيابية أخاذة للمحكية ضمن الفصحى.

الهوى فلسطيني
كان الياس خوري، عاشقاً للحياة بكل ملذّاتها ومتعها، من الكبّة النيّئة ولحم العجل سابحاً في لبن أمه، إلى شجرة الفتنة التي تثمر أزهاراً، إلى الجوف الأزرق الممتد من بيروت إلى حيفا حيث بدأت الحكاية.
وكان مولعاً بأغنية: “أنا في انتظارك”، لأم كلثوم، هو الذي أمضى حياته كلها في انتظار الحرية المشتهاة، والعاشق لا يمل الانتظار. ويمكن القول إنه كان منذوراً للحب في كل ما يقوم به لكن قصة حبه الكبرى اسمها فلسطين.
ولم يكن يحب فلسطين على شاكلة الأنظمة العربية التي استخدمت فلسطين مطية لقمع شعوبها، ولم تكن فعلياً معنية بمصير فلسطين أو الفلسطينيين. بل كانت فلسطين بالنسبة له استعارة للمأساة الإنسانية.
كان لسان حال الفلسطينيين، وعبر عن مأساتهم في كتاباته حتى أن البعض كان يظن أنه فلسطيني، لكن علاقته بفلسطين كانت كالحب، اختياراً وليس انتماءً، فقد كتب أجمل رواية عن النكبة وفتح باباً يفضي إلى الشمس، وظل قلبه حتى آخر لحظة ينبض جهة فلسطين، حتى أعياه في النهاية ما أعياها.

وللمفارقة كانت سنة النكبة الأولى ولادته، ومع النكبة الثانية في غزة كان رحيله. لكن التزامه الأخلاقي والإنساني تجاوز فلسطين، واستطاع بحبر الألم الكتابة أيضاً عن المأساة السورية، فاعتبره السوريون أيضاً سورياً، فهو لم يهادن يوماً مستبداً، ووقف مع الثورة السورية ومع حق السوريين في الحرية، بل ذهب أبعد من هذا حين أعلن أنه سيبقى لاجئاً سورياً حتى يسود العدل وتنتصر الحرية.
لكن الحقيقة هي أن الياس خوري كان بيروتياً حتى النخاع، وكانت بيروت مدينته، وقد أحبها بكل جنونها وسحرها وحتى توحشها. وخبأ لحفيده يامن «المهاجر الصغير» في رمال شاطئ بيروت، كنزاً مركباً من كلمتين هما الحرية والحب. وخبأ لنا نحن قراؤه الكثيرين ومحبيه، الكثير من الكلمات المغمسة بالحب والحزن، والكثير من الأحلام المعلقة، فالأحلام كما كان يقول هي جسر العبور بين يقظتين، يقظة الحياة ويقظة الموت. وليس ثمة فرق بين الأحياء والأموات، سوى أن الأحياء يستطيعون إيقاف الحلم والاستيقاظ من الموت. ولهذا يبدو لي الياس خوري في موته، وكأنه ذهب في قيلولة قصيرة، ونسي أن يرسل مقاله يوم الثلاثاء، كي يصبح الهواء طلقاً في شرق أوسط كاد يختنق اليوم.

الرقصة الأخيرة في بيروت
رغم إن الياس خوري، درس التاريخ في الجامعة اللبنانية، إلا أنه كان يرى التاريخ خدعة توهم الإنسان بأنه وريث الموتى. بالمقابل انحاز إلى الحكاية القادرة وحدها على هزيمة التاريخ، الذي يسجله المنتصرون عادة، وبهذا المعنى كان وريثاً شرعياً لشهرزاد، وكان يدرّس كتاب ألف ليلة وليلة في الجامعات الأمريكية. ورغم كتاباته الكثيرة عن الصمت كاستراتيجية دفاع، كما في صمت ميليا في رواية: «كأنها نائمة»، كما أنه في رواية: «اسمي آدم» كتب عن صمت الشاعر الأموي وضاح اليمن كي ينقذ حبيبته من الموت.
إلا أن الياس خوري في حياته كان يعطف على الصمت بالرواية، وبهذا المعنى كان أقرب لشهرزاد، حكاءً وسارداً للقصص، وخزاناً طافحاً بحكايات المخيم وناسه. وكما شهرزاد كان خوري يروي كي يؤجل موته، وظل لآخر لحظة من حياته وعلى فراش المرض يكتب مقالاً أسبوعياً في جريدة «القدس العربي».
فقد كان بطبعه يرفض الاستسلام أو التقاعد، وكان يقول إن التقاعد هو الموت وأنت قاعد. ولهذا كان يرفض الموت قبل أن يحين أوانه. ولأن الإنسان حسب خوري لا ينتظر موته، بل يعيشه عبر موت الآخرين داخله، والحياة بالنهاية هي سلسلة طويلة من الموت، لهذا نرى خوري في رواياته يستحضر كل أصدقائه الراحلين من شعراء وكتاب كي تكتمل الحكاية، كما في رواية: «رجل يشبهني»، حيث استدعى شعراء رحلوا بعد أن أضافوا لحياته معنى، كمحمود درويش أو الشاعر بألف التعريف، كما كان يحب أن يسميه.
وأفسح أيضاً عمراً إضافيا للشاعر الفلسطيني راشد حسين، الذي مات محترقاً في شقته في نيويورك، كما أنه عنون مقالة أسبوعية له بقصيدة لراشد حسين اسمها «درس في الإعراب»، وفيها يتعلم الأستاذ من تلميذه، الذي دخل سجون الاحتلال، قواعد جديدة في اللغة العربية ومقاومة المحتل. وهكذا فعل الياس خوري، الذي كان يعلم ويتعلم في كل يوم من طلابه، كما نزل معهم إلى الساحات في انتفاضة تشرين، وكان أباً روحياً للكثيرين منهم، على الرغم من تفضيله العمومة على الأبوة، فقد كان عمو الياس للكثيرين، وأنا منهم.

أما الأبوة الحقيقية فقد عاشها بكل عاطفتها وشجونها مع ولديه عبلة وطلال.
في النهاية وقبل أن يراقصه الموت، رقص مع ابنته عبلة في المستشفى البيروتي، رقصة حياته الأجمل. فعندما يرقص الأب مع ابنته الشابة الرقصة الأجمل، يكون عند وقوف الابنة على عتبة الزوجية، أو وقوف الأب على عتبة الجنة. وهل يسكن إنسان يمتلك كل هذا الغنى الفكري والإنساني سوى في الجنة!
الياس خوري سلام عليك وأنت في عليائك الآن تروي ربما الحكايات، وتبكي بحرقة غزة وبيروت، كعاشق خط سطراً من الهوى ومضى.

المصدر: “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى