السودان الذي لا يغيّبه لبنان..!
“المدارنت”..
لم تُغادر كاميرات المراسلين، ولا تقاريرُهم، غزّة إلى لبنان. ليس هذا ما يحدُث، فالفجائعيُّ في القطاع المنكوب لم يكتمل بعد، وإنما انشدّت الأبصار إلى سخونةٍ أعلى في حرارة الحرب المنظورة في هذا البلد، والتي ظلّ حزب الله يخوضها في مستوىً محدّد، لكن العدو الإسرائيلي أراد التوحّش الذي لا سقوف له، عندما اختار الإجرام، في تفجيرات “البيجر” وسواه، والقتل والتمويت والتمادي في القصف، مواظبةً منه على عدم اكتراثٍ بحياة البشر غير المحاربين. استجدّت هذه السخونة في بلد الأرز، كما أرادها العدوّ نفسه الذي يُجهز على الإنسان والعمران هناك في غزّة. ولأن الإعلام مُطالبٌ، أينما كان، بأن يلاحق كل طارئ وجديد (ومفاجئ)، فإنه لم ينصرف عن الحرب غير المنسيّة في السودان إلى غزّة، ثم لبنان، لم يُهمل فظاعاتٍ غير إنسانيةٍ ولا أخلاقية، ما تنفكّ تتجدّد في غضون التقاتُل بين الجيش ومليشيا الدعم السريع التي لم يعُد عناصرُها يتورّعون عن اقتراف أي شرورٍ، وبعضُها عصيٌّ على التخيّل، وإنْ لا نعدم ارتكاباتٍ غير هينةٍ يُحدِثها الطرفُ الآخر.
نقول إن الإعلام لم يفعل الانصراف والإهمال، المتّهم بهما، وإن يجوز التأشيرُ إلى تقصيرٍ قد يُرمى به في بعض المواضع. ولا بأس، في هذا المقام، في شيءٍ من المصارحة، من قبيل إن الأمر يجوزُ أن يُقرأ على نحوٍ آخر، أي على غير قصة الإعلام هاته التي تفترض أنه يصوّب كاميراته وتغطياته ويكثّفها في “ساحاتٍ” يراها تستحقّ، ولا يكترث بالتي لا يراها تستحقّ. وتتعلّق القراءة هذه بقصة السودان نفسه التي تُشعر ناس الإعلام بأنها صارت مُضجرة، فالذين يتقاتلون سودانيون، ليس من عدوٍّ خارجيٍّ يهجِّر الناس، ويقصف، ويرمي القذائف، والنداءات الدولية لا تتوقّف إلى الطرفين المتحاربين من أجل أن يرعوي اثناهما، أقلّه أن يغلّبا الحسّ الإنساني المحض، فلا يستهدفُ أحدُهما المدنيين بالفظاعات التي جاءت عليها تقارير أمميةٌ ذات مصداقية وموثوقية عالية، ولم يهملها الإعلام، فليست إسرائيل التي تثابر على الفتك والتمويت والتهديم في فلسطين ولبنان هي التي أزهقت أرواح 20 ألف سوداني، وتسبّبت بنزوح أكثر من عشرة ملايين شخص، وأخرجت ثلاثة أرباع المرافق الصحّية من الخدمة، منذ عام وخمسة شهور. ارتكب هذا كلّه سودانيون في أهاليهم وناسهم ومجتمعهم وبلدهم ودولتهم. وإذا كان قولٌ صريحٌ (وبديهيٌّ) كهذا يزعج إخوتنا السودانيين، في العموم، فذلك لا يعني التعامي عنه، وإنْ يرَ من يرى أن هذه الحرب الأهلية موصولةٌ بسابقاتها من حروبٍ مثيلةٍ بين السودانيين، أشعلتها مظلومياتٌ جهويةٌ ودوافعُ غريزيّة وبواعثُ عرقية، عوينت، في جولاتٍ ونوباتٍ مديدة منها، شناعاتٌ فادحةٌ، في دارفور وفي الجنوب الذي انفصل تالياً، مثليْن.
لا يُؤتى على هذا المعطى، المعلوم، للتذكير به، ولا للمرافعة عن الإعلام قدّام من يرمونه بالتغاضي عن الحادث في البلد الذي لم يتمكّن أهلوه من إبداع صيغة الدولة الواحدة القوية الغنيّة بثرواتها وتعدّد ناسها وتنوّعهم، ولا لإعفاء الدول العربية ذات المكانة، والدول الكبرى ذات التأثير، وما يطلق عليه المجتمع الدولي، من مسؤوليةٍ ملحّة في الإسهام بإنقاذ السودان من جموح الحرب الراهنة، وقد طرأ أمس أن القتال احتدم بشراسةٍ وضراوةٍ (مفردتي تقارير إعلامية) في العاصمة الخرطوم التي تستولي على كثيرٍ من مرافق الدولة فيها ومحيطها قوات الدعم السريع، وهذه ليس معلوماً بعد ما تريده بالضبط، عندما تُنازع جيش الدولة في مغنم السلطة. وبالتزامن مع هذه المعارك المستجدّة، جاء مهمّا من بيانٍ مشتركٍ للولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا والاتحاد الأوروبي، صدر عقب اجتماع وزاري انعقد في نيويورك على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة، أول من أمس، أنه جدّد الانتباه إلى ما يتعرّض له السودانيون المدنيون من “خطر شديد” مع تصاعد الأعمال العدائية، وأنه دعا “الجهات الأجنبية إلى الامتناع عن تقديم الدعم العسكري للأطراف المتحاربة، وتركيز جهودها نحو إنشاء الظروف المواتية لحلٍّ تفاوضيٍّ للصراع”.
تُراها هذه السخونة الأعلى في المنازلة بين الجيش والمليشيا في السودان، المنهك بأكثر من نازلة اقتصادية وبيئية ومعيشية وصحّية (الكوليرا والفيضانات أخيرا)، تذكّر الإعلام بأن ما يحدُث في لبنان لا يحسُن أن يُشيح الأنظار عمّ يقع في هذا البلد؟ لا، هذا غير صحيح، لأن السودان المدمّى ليس منسياً أبداً، وكل المؤمل أن يرعوي المتحاربون فيه ويكترثوا به.. كفى.