مقالات

السودان.. السير في طريق مليء بالأشواك

د. علي ابراهيم/ السودان

خاص “المدارنت”

فى بداية أبريل/ نيسان من عام 2019، والثورة السودانية فى ذروتها، وبينما كان نظام البشير يتهاوى نحو السقوط أقدمت اللجنة الأمنية المنوطة بحماية النظام بتنفيذ الشطر الأول من إنقلاب الإنقاذ فى نسخته الثالثة بإدعاء الإنحياذ للثورة!

وألتقط تجمع قوى الحرية و التغيير الطعم  ووقع فى الفخ، وعقد معهم إتفاقية معيبة مسنندة على وثيقة دستورية مخلة، بها ثقوب وثغرات قانونية بينة، فإنجلت عنها أخطاء جسيمة ودفعت برئيس وزراء بلا تجربة سياسية أو نضالية تؤهله لقيادة مرحلة غاية فى التعقيد والتشابك، وكان طبيعيا أن يتوه فى غياهب التنازعات والصراعات وأن يعجز خلال أكثر من عامين أن يقدم برنامجا لحكومته كما تقتضي التقاليد الديمقراطية فى العالم، وإنكفأ على نفسه وعلى رهطه المقربين وسلم أهم الملفات التنفيذية إلى المكون العسكري كملف السلام و الإقتصاد والسياسة الخارجية وغيرها.
هذا الواقع أبطل إلى حد كبير إنفاذ شعارات الثورة فى العدالة الإنتقالية والسلام العادل ومحاربة الفاسدين والسارقين، وإزالة آثار النظام السابق فى التمكين والسيطرة على مفاصل الدولة المدنية والعسكرية والإقتصادية والعدلية. وهكذا ثبتت الدولة العميقة فى مواقعها، وأضحت هى المسيطرة فعليا على مقاليد الأمور وعاد حزب المؤتمر الوطني “المحلول” حاضنة سياسية مستترة!
وأدخلت البلاد في متاهة بما يسمى “إتفاق جوبا للسلام” – الموقع بين أمراء الحرب والسلطة العسكرية الحاكمة – فى مأزق آخر حيث أعطى إمتيازات لإقليم على حساب بقية الأقاليم، الأمر الذى لقي  معارضة عظيمة من الشعب، وكانت له إرتدادات سلبية أزكت روح العنصرية و القبلية والجهوية،
وأدى إلى تعسكر خمسة جيوش فى العاصمة، ولكل منها قيادتها وعقيدتها العسكرية الخاصة بها.
وإنتقلت رائحة الحرب إلى العاصمة، وأصبح المواطن فاقدآ للأمن والأمان فى ظل فراغ أمني واضح ألقى بظلاله على حركة المجتمع، واستحدث سبلا فى التعامل مع الواقع الجديد حفاظا على الأرواح و الأملاك.
كان من إيجابيات وإنجازات ما بعد سقوط البشير، رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، بعد تسوية مع الإدراة الأمريكية، مما أتاح له العودة للمجتمع الدولي والتواصل مجددآ مع المنظمات والمؤسسات الإقتصادية العالمية، وكان موعودا بحزمة من المساعدات والتعاقدات القيمة وبشطب قدر كبير من ديونه الخارجية.
وفي الخامس والعشرين من شهر ديسمبر/ كانون أول الماضي قام الفريق البرهان، بتنفيذ الجزء الثاني من إنقلابه، وأطبق على كل السلطات السيادية والتنفيذية، وكشف عن المستور من وجهه، وزجّ ببعض السياسيين فى المعتقلات، ومنهم من كان معه عضوا فى مجلس السيادة، وأعضاء لجنة إزالة تمكين نظام البشير، ورئيس الوزراء وبعض الوزراء، وعطل بعض بنود الوثيقة الدستورية، وأعاد منسوبي نظام البشير إلى مواقعهم التى فصلوا منها، وكوّن حكومة تسيير أعمال، جلّ أعضائها من المؤتمر الوطني “المحلول”، و هكذا أدخل البلاد في أزمة سياسية وعزلة داخلية وخارجية.
وتوقف التواصل مع المؤسسات الإقتصادية العالمية وتراجعت الدول عن وعودها بتقديم العون المالي والإنساني مما إنعكس سريعا علي المواطن العادي بغلاء طاحن وفقدت العملة السودانية خلال اريعة أشهر أكثر من 80% من قيمتها ووصل  التضخم إلى أكثر من 400 %.
فاشتعلت جذوة الثورة مرة أخرى وعمت المدن والقرى والأرياف وسقط خلال هذه الفترة أكثر من 90 قتيلا إضافة الى مئات الجرحى والمصابين.
 وظهرت لجان المقاومة كقوى  حية لا يستهان بها ولا يمكن تجاوزها وأضحت هى القائدة والموجهة لنضال الشارع فى ظل غياب واضح للأحزاب السياسية الكبري والتى إنغمست فى طرح مبادرات تقدم مخرجا آمنا للسلطة الحاكمة يعفيها من جرائم القتل والإغتصاب مقابل تنازلهم عن بعض سلطاتهم ووصولا لتسوية ما!
فى المقابل تقف لجان المقاومة والقوي الثورية ضد أى محاولة للتفاوض أو المصالحة أو المشاركة مع الإنقلابيين ويطالبون بحكومة مدنية وبالعدالة و بمحاكمة مرتكبي جرائم القتل.
ومن وقت لآخر يعلن قائد الإنقلاب بأنه لن يسلم السلطة إلا لحكومة منتخبة أو حكومة عبر وفاق وطني وهى دعوة حق أريد بها باطلا لأنه يعلم علم اليقين أن كل السودانيين متفقون على عودة الجيش إلى ثكناته و على  تشكيل حكومة مدنية،  الأمر الذى سيقود حتما إلى محاكمة عادلة على الجرائم التى أرتكبت فى حق الوطن والمواطن وهو ما يخشاه ويرفضه والكل يدرك أن الدعوة للإنتخابات – فى مثل هذه الظروف – تعني عودة المؤتمر الوطني بطريقة التزوير المعروفة ، كما كان يحدث فى عهد البشير.
 عوضا أنه لا أحد بات يصدق البرهان بعد تنصله عن كل الإتفاقيات و الإلتزامات الواجبة التنفيذ.
بعد إنسداد الأفق السياسي وما تبعه من تقاطعات إقليمية ودولية فى الشأن السوداني وبروز دور قائد قوات الدعم السريع فى بلورة وريادة الفعل السياسي بشكل ملفت، بعدما تمكن من بناء مؤسسات إقتصادية ضخمة خارج سيطرة  الدولة وبناء  قوة عسكرية ضاربة بمعدات مهولة  وآليات ضخمة تضاهي إمكانيات الجيش الرسمي، مما شكل خطرا ماثلا فى إنزلاق البلاد إلى مآلات غير محسوبة العواقب، الأمر الذى حرك الفعاليات والمنظمات والأحزاب السياسية بالإضافة إلى الإتحاد الافريقي والأمم المتحدة فى البحث عن مخرج يؤدي إلى الخروج من الواقع المتأزم إلى رحاب توافق جمعي يقود إلى نظام ديمقراطي مدني.
ولهذا ظهرت على الساحة عدة مبادرات وأهمها المبادرة الأممية والتى تنظر إليها السلطة بعين الريبة لما تنطوي عليه من أسس تضع من الرؤية الشعبية والقيم الإنسانية والمبادئ الديموقراطية قاعدة لها.
ثم تأتي مبادرة الجبهة الثورية والتى هى أصلًا جزءًا من السلطة ومشاركة فى مجلس السيادة وفي مجلس الوزراء.
يضاف إلى ذلك مبادرة حزب الأمة ومبادرة الحزب الإتحادي الديمقراطي، اللذان كانا مشاركين فى سلطة نظام الإنقاذ حتى لحظة سقوطه، مما يفقدهما المصداقية والقبول لدى الشعب.
 ولا زالت الساحة تعج بمبادرات كثيرة أخرى، كمبادرة أساتذة جامعة الخرطوم وبعض أفراد ومنظمات قوى المجتمع المدني، توجد محاولة فى جمعها فى مبادرة واحدة.
ويقيني أن كل هذه المبادرات ستؤول إلى الفشل لأن النظام ما يزال يشتري فى الوقت وأنه  عاقد العزم لتسليم السلطة إلى نظام يأتي بعد إنتخابات ممسوخة و مزورة ومفبركة تعيد المؤتمر الوطني للسلطة من جديد تحت مسمى آخر  ويعفي السلطة الحالية من مسؤولية  الجرائم و الإنتهاكات التى أركتبت فى حق الوطن والمواطن وإذا تحقق لهم هذا المسعى، فهو بلا أدنى شك سيكون كارثيا بكل المقاييس.
والحل يكمن فى تضافر الجهود الدولية مع لجنة حكماء من السودانيين أنفسهم مقبولة من لجان المقاومة والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني وقادة القوات العسكرية وأن تجري حوارا شفافا يفضي إلى حل يعيد الجيش إلى ثكناته ليقوم بدوره فى الحفاظ على سلامة البلاد وأمنها وبدمج قوات الدعم السريع وقوات المليشيات الاخرى بطريقة مهنية سليمة ثم تطهيرها من الأجانب وتدريبها على عقيدة وطنية  خالصة.
ثم  قيام مجلس رئاسي، سيادي وأختيار رئيس كفؤ لمجلس الوزراء ووزراء سياسيين يعرفون معني التغيير ومتطلبات المرحلة وخصوصيتها، ثم تكوين المفوضيات المختلفة والشروع فى صياغة دستور يحكم الفترة الإنتقالية وإنفاذ العدالة ثم إعادة النظر فى إتفاقية جوبا للسلام من خلال مؤتمر جامع لكل أهل السودان يقرر كيفية إدارة البلاد مستقبلا لكي تجرى إنتخابات حرة ونزيهة وشفافة وبإشراف دولي بعد مدة لا تقل عن أربع سنوات حتى تعطي الأحزاب الوقت الكافي لتنظيم  نفسها و الإستعداد للإنتخابات فى ظروف صحية و حرة و متكافئة.
هذا ما هو متاح اليوم وقد لا تتوفر له الظروف والمعطيات غدا وحينها ستكون المعالجة ضربا من المستحيل.
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى