"المدارنت" كنت في بداية المرحلة الإعدادية حينما استلم الرئيس المعزول عمر البشير السلطة في السودان بعد نجاح انقلابه، الذي كان يطلق عليه في ذلك الوقت اسم «ثورة الإنقاذ الوطني». ذلك الوقت الباكر شهد أول احتكاك لي بالطبقة، التي سرعان ما ستتمدد وتكبر: طبقة أبناء أو أولاد النظام. تصادف حينها إن كان في فصل مدرستنا ابن أحد المنتسبين لما يعرف بـ»الحركة الإسلامية»، وهي التنظيم، الذي كان يمثل الرافعة المدنية للانقلاب. كان الجميع يتعامل مع ذلك الطفل معاملة خاصة، فيها قدر كبير من الاحترام. الجميع، بمن فيهم أساتذة الفصل، كانوا يحاولون كسبه والبعد في حضوره عن انتقاد النظام. الطريف أن ذلك الطفل في عمره الصغير ذاك كان يدافع عن النظام بشكل مستميت، وبينما كانت غالبية التلاميذ لا تملك إلا معلومات مبسطة عن عالم السياسة، كان يبدو مسلحا بمعارف كثيرة، فينتقد الأحزاب وفوضى الديمقراطية، التي خربت البلاد والسياسيين الأشرار المعادين للدين، والذين جاءت «الثورة» من أجل إنقاذ البلاد منهم، وغيرها من الأفكار، التي كان يبدو واضحا أن والده كان يغذيها فيه. ذلك الطفل لم يكن وحيدا، وإنما ستجمع المدرسة أقرانا كثرا له، لن يكتفوا فقط بأن يقتربوا من بعضهم، وإنما سيعملون على خلق ما يشبه التحالف لمحاربة المناوئين المفترضين من «الشيوعيين»، وهي الكلمة، التي ظلت تطلق لوقت طويل على مجمل المعارضين. كان مجرد انتقاد أزمات بسيطة، كأزمة انعدام السلع التموينية، يكفي لأن يثير غضب «أبناء النظام»، الذين يجدون أنفسهم مطالبين بالرد والدفاع عن الحكومة، إما عبر تقديم الحجج، التي كانوا يسمعونها من أهاليهم، أو عبر سياسة التخويف والتشويه من خلال وصف المنتقدين بأنهم أعداء للنظام وللدين، وهي تهمة لم تكن بسيطة في السنوات الأولى للانقلاب. في المرحلة الثانوية اكتسب الأمر ترتيبا أكبر، حيث انتظم أبناء النظام هؤلاء في ما يشبه الخلايا الصغيرة، التي سوف تحتكر تمثيل الطلاب وتكوين الاتحادات، من دون أن ترى في ذلك ما يشين، على اعتبار أنها المجموعة الأكثر وطنية والأكثر دعما للنظام. كانت من مهمة هذه الكوادر الشابة، بالإضافة إلى صنع الحشود والاشتراك في توجيه «المجاهدين» الراغبين في الاشتراك في حرب الجنوب، العمل على تجنيد مزيد من الشباب، إما عبر الإقناع بأيديولوجيا الإسلام السياسي، أو عبر الإغراء والترغيب. في الفترة، التي امتدت من نهاية التسعينيات وحتى بداية الألفية، والتي كانت قد شهدت بعض الاستقرار والنمو الاقتصادي، مقارنة بسنوات حكم البشير الأولى، كنا نلاحظ أن طبقة أبناء النظام، التي كانت متوزعة بين أفراد منتمين لعائلات منضوية تحت «الحركة الإسلامية»، وآخرين تم إقناعهم بفكرة «البعث الحضاري»، باتت تضم فئة ثالثة سوف يكون لها دور كبير في مستقبل هذا البلد، وهي فئة المنتفعين، الذين انخرطوا في أجسام النظام، ليس لقناعة راسخة بالشعارات المطروحة، وإنما لأن هذا الانخراط كان يمثل بالنسبة إليهم وسيلة للارتقاء الاجتماعي. كانت أعداد هؤلاء المنتفعين كبيرة جدا، وساعد في ازديادها أن الحركة، التي كانت تضمهم لم تكن تكترث كثيرا بما يعرف في التنظيمات المشابهة بالتصفية والتربية، بل كانت تبدو مهمومة أكثر بالحصول على أكبر عدد من أصحاب الولاء، الذين يمكنهم أن يسندوها عند الحاجة، عبر التصويت أو الحشد أو حتى عبر البلطجة واستخدام القوة في وجه المعارضين. المفارقة، التي تمثلت في ابتعاد «الحركة الإسلامية» عن آداب الدعوة، وعن روح الإسلام، كانت تجلب لها انتقادات وسخرية من قبل كثيرين، بمن فيهم تيارات سلفية وإسلامية أخرى، كانوا يصفون قادتها وأفرادها، الذين كان منهم من لا يظهر اهتماما بكثير مما يعتبر من الثوابت، بالنفاق. ذلك العرض، الذي كان يمنح أشخاصا في مقتبل العمر سلطة كبيرة، تجعل رجالا في عمر والديهم يتقربون إليهم من أجل التوسط لاستخراج ورقة حكومية، أو من أجل التواصل مع المسؤولين، كان يغري بلا شك كثيرا من الشباب، خاصة أولئك القادمين من مناطق تسيطر عليها أفكار التهميش، كان أولئك يرون في ذلك النظام فرصة لبناء شخصية يجبر الجميع على احترامها. الانضواء تحت مظلة النظام والتحول لأحد أبنائه البررة عبر إظهار الولاء المطلق والتبرع للقيام بكل مهمة مهما كانت، كان الطريق، الذي اتبعه كثير من المرضى النفسيين، الذين سينخرطون كجنود وأفراد في شبكات القمع النظامية أو الموازية، التي كانت تمارس عنفا غير متناسب مع الأحداث، خاصة على صعيد الجامعات. من الأمثلة الشخصية التي أذكرها، والتي توضح ما يعنيه منح سلطات كبيرة لأشخاص في مقتبل العمر، أن المسؤولين آنذاك عن مراقبة الخدمة الوطنية، (الاسم، الذي تم استحداثه ليكون أشمل من الخدمة العسكرية)، كانوا شبابا قريبين لنا في السن، مع فارق كونهم من تلك الطبقة التي تتعامل مع الجميع بتعالٍ. الذي حدث هو أنه كانت تدفع لنا إبان أداء الخدمة مبالغ شهرية، إلا أنه تم إبلاغنا أننا لن نحصل على راتب الشهر الأخير في مقابل الحصول على ورقة «خلو الطرف». كان ذلك أمرا غريبا، حيث إن ورقة «خلو الطرف» هذه هي حق أصيل، وهي اعتراف بأدائك الفترة المطلوبة، خاصة أنه كانت تتم مراقبة أدائك على مدار العام. الشاب المسؤول حينها أبلغنا أنهم سيستفيدون من هذا الراتب من أجل تحسين بيئة المكتب والخدمات. بالتأكيد فإنه لم تكن هناك أي وسيلة للتأكد من حقيقة توظيف هذه الأموال، وما إذا كانت ستؤول إلى ميزانية المكتب الحكومي فعلا وليس إلى جيوب العاملين. ما كنا مقتنعين به هو أن التصعيد وافتعال مشكلة بهذا الشأن كان يمكن أن تكون له عواقب كثيرة من أدناها إخفاء الملف الخاص بالخدمة، أو رفض استخراج شهادة المواظبة، ما يجعلك مجبرا على إعادة أداء الخدمة. فكرة النخبة الشابة المقربة من صنع القرار كانت تغري الكثيرين، وقد أطلت مرة أخرى برأسها بعد نجاح إسقاط الرئيس عمر البشير في 2019، حيث بدأت تتصدر المشهد مجموعة من الأسماء، التي كانت تفتخر بقربها من القادة الجدد. بطريقة مشابهة لطبقة أبناء النظام في عهد البشير كانت تلك الطبقة الجديدة تحتكر التعبير عن الوطن وعن «الثورة»، كما كانت تستطيع أن ترهب أي شخص عبر اتهامه بأنه فلول أو معاد «للثورة». كانت هذه النخبة الصاعدة تأمل في أن تأخذ المكان، الذي كان يحتكره الشباب المقربون من الحكومة أيام النظام السابق. من خلال قيادتهم للتظاهرات وارتباطاتهم السياسية كانوا يبدون قادرين على إحداث فرق فعلا. اليوم، يزعم الجنرال المتمرد محمد دقلو «حميدتي»، بأنه ورفاقه يقاتلون في سبيل محاربة «الإسلاميين» وكتائب «الحركة الإسلامية». المضحك هو أن هذا الخطاب، المفعم بكراهية «الأخوان»، يتصدره متحدثون كانوا منتمين حتى قبيل اندلاع الحرب لهذه الحركة. حديثنا عن طبقة أبناء النظام يفسر كل شيء، فهؤلاء الأفراد، الذين اعتبروا في وقت ما أن «الحركة الإسلامية» ونظام البشير يمكنهما أن يمثلا سلما جيدا من أجل تحقيق غايات شخصية، والذين تصادف أن كانت أعداد كبيرة منهم تنتمي لإقليم دارفور، يرون اليوم أن الأشياء تتغير، وأن الانحياز لحميدتي ولمشروعه العنصري القائم على الاستبدال الاجتماعي قد يكون مربحا وعمليا أكثر. د. مدى الفاتح/ "القدس العربي"