السودان ـ ليبيا ـ مصر.. هندسة الإقليم؟
“المدارنت”
قال الجيش السوداني، الذي يقوده عبد الفتاح البرهان، أمس الأربعاء، إنه انسحب من منطقة المثلث الحدودي بين ليبيا ومصر والسودان وذلك بعد يوم من اتهامه قوات موالية لخليفة حفتر، قائد قوات الشرق الليبي بشن هجوم إلى جانب قوات «الدعم السريع»، الميليشيا التي يقودها محمد حمدان دقلو (حميدتي).
كان لافتا، أن الحدث العسكريّ وقع بعد أيام من إعلان القاهرة انضمامها إلى «الرباعية» الخاصة بالسودان، والتي تضم أمريكا وبريطانيا والسعودية والإمارات، وهو ما ترافق مع تصريحات مصرية تحذر من «تمدد قوات الدعم السريع في بعض المناطق الحدودية، إضافة إلى نفوذ بعض الأطراف الإقليمية التي كانت تدفع في اتجاه شرعنة الانقسام في السودان».
تحدّث الجيش السوداني عن دور المنطقة التي انسحب منها، والتي تقع قرب مدينة الفاشر، في نقل شحنات الأسلحة إلى خصومه في «الدعم» لكنّ ما حصل يتجاوز، عمليا، المعطى العسكريّ إلى تأكيد حصول تطور في الوقائع التي فجّرها الصراع الذي بدأ في 15 نيسان/ابريل 2023، وكرّس انحسار دور القوى المدنية السودانية المتضافرة مع المساعي الغربية للتسوية السياسية، وتبلور الانخراط الإقليمي في الصراع بين مشروعي الإمارات (التي تدعم «حميدتي») ومصر (التي تدعم البرهان).
يفترض بهذا الحدث العسكري أن يخصم، ضمن السياق الآنف، من رصيد التقدم السياسي الذي أحرزته القاهرة من إضافتها إلى الرباعية باعتبارها من القوى الفاعلة في السودان، ويخلط أوراق اللعبة الإقليمية بما يتجاوز الحدود المصرية الليبية السودانية.
تضع الواقعة إشارة استفهام، بداية، على خيار قوات حفتر، التي تحتفظ بعلاقات سياسية وعسكرية مع مصر، بالانحياز إلى المشروع الإماراتي في السودان، رغم أنه يحظى برعاية القاهرة وأبو ظبي معا. يبدو حفتر، هنا، أكثر قربا من النموذج الإماراتي القادر على تحريك شبكة واسعة تجمع بين الدول الإفريقية المتعاونة معه، مثل تشاد وكينيا وأوغندا، والميليشيات شبه العسكرية، من «فاغنر» الروسية، إلى «الانتقالي» اليمنية، و«الدعم» السودانية.
يمكن اعتبار انضمام مصر إلى دول الرباعية، رغم التطوّر الأخير، مكسبا للحكومة المصرية التي تحاول مواجهة تهميشها، الغربي، عبر إقصائها السابق من «الرباعية»، والعربيّ، الذي يتجلى بحضور الإمارات والسعودية فحسب، والذي يتجلى أيضا بمظاهر عديدة، كان آخرها ما تم تداوله عن مطالبة الرياض بمنصب رئاسة الجامعة العربية، المحتكر من القاهرة.
تدخل الخطوة، ضمن طموحات مصر، للمساعدة في مساعي هندسة القرن الأفريقي، في محاولة لتثبيت أركان حكم السودان لصالح الجيش، في مواجهة إثيوبيا في إطار الخلاف على تداعيات سد النهضة.
تشير مجمل التطوّرات، من جهة أخرى، إلى التدهور الكبير في طموحات القوى المدنية في السودان، والمنطقة العربية، وتآكلها تحت وطأة النزاع بين طرفين يتقاطعان في العداء لأي مسار ديمقراطي مدنيّ.
الخيار الأخير للجهتين، هو حكم البلاد عسكريا وأمنيا، لكن القول واجب، إن الطرفين يقومان بتجاوزات كبيرة ضد السكان، لكن مؤسسات حقوق الإنسان العالمية، والأمم المتحدة، تشير إلى أن قوات «الدعم السريع» ترتكب فظاعات هائلة ضد السودانيين تتضمن التجويع، والاغتصاب، والقتل الجماعي.
ما نشهده سعي لهندسة الإقليم بين قوة إقليمية صاعدة طامحة للتحكّم في بلاد تحكمها الفوضى وميليشيات لا تقيم وزنا لأي قانون، وقوة أخرى فقدت وزنها التاريخيّ وتراهن على استمرار نموذج تحكّم الجيش بكل مفاصل الحياة العامة. الصراع بين سيئ آفل، وأكثر سوءا صاعد فيما يهبط السودانيون (مثل نظرائهم الفلسطينيين في غزة) إلى قعر الجحيم!