مقالات

السودان.. مأزق البرهان.. مأزق وطن..!

د. علي ابراهيم/ السودان
خاص “المدارنت”..

في الخامس والعشرين من الشهر الماضي (أكتوبر -تشرين) أكملت الطغمة العسكرية بقيادة الفريق عبد الفتاح البرهان، آخر حلقات إنقلابهم على الثورة السودانية، والتى كانت أولها فى ليلة العاشر من أبريل 2019 بإزاحة البشير عن السلطة وتقديم أنفسهم قيادة جديدة للبلاد في نسخة ثالثة لنظام الإنقاذ وبدعم خفي من الحركة الإسلاموية فارضين أنفسهم على ساحة الحراك السياسي بفرية إنحيازهم للثورة.

قام الفريق البرهان، بصفته القائد العام للقوات المسلحة بحل مجلس السيادة ومجلس الوزراء ومجلس شركاء الفترة الإنتقالية، وإعفاء الولاة وإعلان حالة الطوارئ وتعطيل مواد مهمة في الوثيقة الدستورية فى الوقت الذى لا توجد فيها مادة واحدة تخوله لإتخاذ أي من تلك القرارات! مما يجعلها جميعها غير دستورية وغير قانونية ولا تستند إلى أي مرجعية سوى سلطة الإنقلاب على الشرعية الدستورية والمؤسسية.
ثم أعتقل رئيس مجلس الوزراء السيد عبد الله حمدوك، وعدد من الوزراء وقادة تجمع الحرية والتغيير  – الحاضنة السياسية للثورة – وألحق بهم  مئات الثوار والناشطين  السياسيين.
وكان إستهداف أعضاء لجنة إزالة التمكين لنظام البشير بالتنكيل والإذلال، كاشفا عن نوايا قادة الإنقلاب، حيث تم إعتقالهم جميعا وعلى رأسهم عضو مجلس السيادة محمد الفكي وكان معظمهم تحت الحصانة السياسية والتى ضربوا بها عرض الحائط فى سابقة لم نسمع بها إلا فى عهد الأنظمة النازية والفاشية.
وخلال هذه الفترة أصدر عدة مراسيم وقرارات هي أيضًا خارجة عن الشرعية، أقال بموجبها معظم رؤساء الإدارات الحكومية التى كانت قد أختيرت من قبل حكومة رئيس الوزراء حمدوك، وأحل مكانها عناصر وكوادر كانت تابعة لنظام البشير، وهكذا عاد النظام القديم فى حلة جديدة وبصورة فاضحة!
وكان من الطبيعي ان ينتفض الشعب السوداني بالملايين مرة أخرى فى القرى والبوادي والمدن ويقاوم بجسارته المعهودة وينهض لمواصلة ثورته في تظاهرات سلمية لم تقف لحظة وعبر جداول ومواقيت للإضراب السياسي والعصيان المدني، وقدم مرة أخرى عشرات الشهداء ومئات الجرحى وما بدلوا تبديلا.
هذا المشهد الشجاع كان حافزا للعالم بأثره أن يتضامن ويساند الحق الطبيعي فى الحرية والكرامة والديموقراطية، وصدرت مئات المواقف والتصريحات الشاجبة للإنقلاب والمطالبة بالعودة إلى المسار الديموقراطي و بعودة الحكومة المدنية.
ولعل أبرزها قرارات الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي وأمريكا وبريطانيا والنرويج، وتعليق عضوية السودان في الإتحاد الأفريقي، وتراجعت الولايات المتحدة الأمريكية عن إعطاء السودان مبلغ 700 مليون دولار إعانة، كانت مقررة، ولوحت بفرض عقوبات إقتصادية وإعادته الى حظيرة الدول الراعية للإرهاب مرة أخرى.
وتراجعت أيضا فرنسا عن شطب مبلغ 5 مليار دولار من ديون السودان، و12 مليار دولار أخرى من نادى باريس، وأوقفت البنوك الأوروبية التعامل مع البنوك السودانية وقرر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي تجميد التعامل مع السودان، وبذلك عاد السودان إلى العزلة الإقتصادية وضربت عليه مرة أخرى الذلة والمسكنة السياسية فى واقع أسوأ مما كان عليه فى عهد المخلوع البشير.
وكل هذا، لم يردع الطغمة العسكرية أو يكون مدعاة للتفكير والتراجع عن تلك القرارات الكارثية في حق الوطن والمواطنين، بل استمروا في غيهم برفضهم لكل النداءات والوساطات الدبلوماسية وفرضوا طوقا من العزلة على رئيس الوزراء حمدوك ومنعوا عنه التواصل الإنساني والرسمي مع السفراء وممثلي العمل السياسي والمدني وممثلي الصحافة والإعلام وأطلقوا يد قوات الأمن والشرطة والجيش والجنجويد لضرب المقاومة الشعبية بالرصاص الحي والهراوات والغاز المسيل للدموع وسط تعتيم إعلامي بقطع خدمات الإنترنت والتضييق على الإعلاميين الوطنيين وإطلاق العنان لأبواق النظام السابق للدفاع عن الإنقلاب.
وفي تطور جديد ذو أهمية، أعلن بذات الطريقة الغير مسنودة إلى  مرجعية دستورية عن تكوين مجلس السيادة الإنقلابي وفى خطوة كانت متوقعة رفض الأعضاء الثلاثة ممثلى الجبهة الثورية الإلتحاق به كما اعلن وأصدروا بيانا أعربوا فيه عن رفضهم للإنقلاب، مما يشكل صفعة قاسية  للطغمة وإجهاضا لمحاولتهم الخبيثة لشق صف الثوار.
وحتى اللحظة فشلت محاولات بحثهم اليائسة فى العثور  على رئيس وزراء، يكون دمية فى يدهم و مطية لتنفيذ مشروعهم الشرير و قوبلت كلها بالرفض .
وهذا الإصرار فى التمادى في الخطأ يرجع أساسا إلى ما أرتكبته  هذه الفئة الضالة من جرائم ضد الإنسانية في دار فور ومجزرة القيادة العامة 2019 وغيرها من قتل المتظاهرين السلميين وهى جرائم لا تسقط بالتقادم وستقودهم حتما إلى المساءلة والمحاكمة والقصاص و هى مرصودة من الهيئات الحقوقية الدولية و على رأسها محكمة الجنايات الدولية ويضاف إلى ذلك حلم الحركة الإسلاموية فى الرجوع إلى الحكم لممارسة مشروعها التخريبي في السرقة والنهب والفساد وبعد الفطام القسري الذي فرضته عليهم ثورة ديسمبر المجيدة.
يضاف إلى ذلك عامل ثانوي دفع بهم إلى هذه المغامرة وهو الدعم الخفي من محور الشر العربي والإقليمي والذي أجهض ثورات الربيع العربي والذى لا يمكن أن يطيق نظام ديمقراطي حقيقي على حدوده أو داخل منطقته ويضاف إلى ذلك دعم لهم  الكيان الصهيوني بعد أن تأكد زيارة وفد من الموساد الإسرائيلي إلى الخرطوم قبل أسبوعين من الإنقلاب وقد يكون الركون إلى الدعم والتأييد و المساندة الروسية و الصينية من بعض الأسباب وهى قوى قاهرة لشعوبها ولا تؤمن أصلا بالديموقراطية وبسط الحريات وتبحث حصريا عن مصالحها والنكاية بأمريكا فى أي بقعة من بقاع العالم يكون لها  فيها  تأثيرآ أو نفوذآ.
إن أمام البرهان وزمرته خياران أحلاهما مر و في كلاهما هو ساقط لا محالة. إما الإزعان لرغبة الجماهير والرحيل  وتسليم أمانة قيادة البلاد لسلطة مدنية شعبية ديموقراطية، يتفق عليها الثوار، وتقود إلى إنتخابات برلمانية في نهاية المطاف وأن يعود الجيش إلى ثكناته ليقوم بدوره الرئيس فى حماية البلاد وحدودها وأن تقوم الأجهزة الأمنية والشرطية بمهامها التى حددتها الوثيقة الدستورية.
والخيار الثاني، هو العناد والتشبث بسلطة الإنقلاب والدخول في مواجهة مع الشعب على ساحات النزال وهذا خيار خائب وجبان من آلة بطش مسلحة فى مواجهة ثوار سلميين صدورهم عارية.
ومن قراءاتي الشخصية لطبيعة عقلية الأشخاص المسيطرين على الموقف، ولحيثيات الأحداث ولمعطيات الواقع السياسي الماثل،  أتوقع أن يختاروا  الإحتمال الثاني، هنا تكمن المأساة وستتجه البلاد نحو المجهول وبكل ما يحمل من توقعات منظورة أو  مجهولة خفية. وفى كلتا الحالتين، ستستمر الثورة بلا هوادة حتى يتحقق  النصر، وهو قريب بإذن الله.
ولا نامت أعين الجبناء.
=====================
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى