مقالات

السودان ومشاورات حكومة “الجنجويد”!

“المدارنت”..
تزامن نشر مقالي الأخير، الذي جاء تحت عنوان: «هل تنبأ برنارد لويس بحرب السودان؟»، مع حدث مهم في تطور مجريات الأمور في البلد المنكوب، حيث شهد الأسبوع الماضي تجمع واجهات سياسية سودانية مختلفة في العاصمة الكينية نيروبي لبحث تكوين حكومة موازية للحكومة السودانية، التي يرأسها عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة وقائد الجيش، الذي تخوض ضده عصابات محمد حمدان دقلو (حميدتي) حربا مفتوحة منذ أبريل/نيسان 2023.

على مرّ الأيام الماضية كانت تطرح أسئلة حول تلك الحكومة الموازية، المزمع إنشاؤها، ومدى قدرتها على التحول لحكومة حقيقية وليس مجرد سلطة منفى. المتحمسون لهذه الفكرة بدا وكأنهم كانوا يعتبرون أن بالإمكان تحقيق صورة مشابهة لسلطة الأمر الواقع الحوثية، أو لغيرها من أمثلة الأقاليم الخارجة عن سلطة الدول في المنطقة. أما سؤال الشرعية، فكان آخر ما يقلق أولئك السياسيين، حيث تثبت التجارب المماثلة أن بالإمكان شراءها بصفقات المصلحة أو بالمال، فالشرعية مسألة نسبية تحتمل وجهات النظر، وهي تمنح في الغالب للطرف، الذي تتحقق معه المصالح.
السؤال، الذي سيعيدني مرة أخرى لأفكار برنارد لويس، هو ذلك المتعلق بملاحظاتي حول تلك الحكومة المفترضة، وأولئك السياسيين الداعمين، فهل كانت تلك الحكومة لتكون، مثلما تردد دعايتها، حكومة سلام تتخذ من المناطق الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، خاصة في غرب السودان، أرضا لها يجتمع فيها جميع المواطنين من مختلف الانتماءات؟ إن نظرة إلى الموجودين في اجتماع نيروبي، يمكن أن تخبرنا أن تلك الدعاية، التي أنفقت عليها ميزانية كبيرة وصحبتها تغطيات إعلامية مكثفة، ليست سوى بروباغندا خادعة. صحيح أن الجهات الراعية للميليشيا حرصت على تلوين الحضور بإضافة بعض الأسماء والشخصيات من خارج المجموعات القبلية، التي انحازت إلى حميدتي منذ البداية لأسباب متعلقة بالعصبية العرقية.
إلا أن ذلك لم ينجح في إخفاء الطابع العنصري للاجتماع، الذي كان الغرض الأساسي منه هو تحقيق حلم «دولة الجنجويد»، التي يمكنها أن تجمع أبناء جنيد والمجموعات القبلية والمناطقية المتحالفة معهم ضمن كيان جديد. هذه الصورة العبثية، التي تحاول فيها قبائل ومكونات عشائرية ابتلاع الدولة، هي أحد تمظهرات ما كان ذهب إليه برنارد لويس، مما جاء في المقال السابق، حين قلت إن المفكر الأمريكي اعتبر أن هناك مشكلة تتعلق بدول ما بعد الاستعمار، تتلخص في أنها تجمع شعوبا متناقضة الخلفيات والثقافات، في الوقت الذي تفرق فيه بين أبناء الدم الواحد، وتجعلهم مشتتين في أكثر من كيان ودولة.
نتيجة لهذا، فإن هذه الدول تدخل في دوامة لا تنتهي من فقدان الاستقرار، فبعض هذه المكونات المتناقضة، سوف يرى أنه أحق بالأرض من غيره، كما أن مكونات أخرى سترغب في التمدد وتحقيق دولة أكبر يمكنها أن تحقق وطنا أكثر تعبيرا عن إثنياتها.
في مقابل هذه المعضلة، فإن الدول الحديثة لا تملك سوى خيارين من أجل تحقيق الاستقرار الصعب المنشود، فإما أن تعتمد الحلول العسكرية والأمنية، من أجل إسكات المكونات الغاضبة والمتمردة، وإجبارها على الخضوع لسلطة الدولة، وهو طريق شائك ومحفوف بالمخاطر والحروب، وإما أن تستجيب وتقتنع بصعوبة الحسم العسكري فترضخ لمطالب الانفصال. هذا طبعا إلى جانب مخرج ثالث، وهو أن تضعف الدولة بما يسمح للأقلية المتمردة بالتغول على المركز والسيطرة على نظام الحكم.

تشاد المجاورة للسودان جربت الصورة الأخيرة، التي تمكنت فيها أقلية قبلية من تحقيق انقلاب استطاع أن يمنح أبناءها سيطرة على الدولة، أما السودان فخاض تجربة قد تكون فريدة من نوعها، حيث جرّب على مدى نصف القرن الأول بعد استقلاله الخيارين الأولين في تعامله مع أزمة جنوب السودان، فجرب العنف والإجبار على الوحدة لعقود، قبل أن تلجأ الحكومة للقبول بطرح الانفصال.
أهمية اجتماع نيروبي تكمن في أنه كان يضع حرب السودان الحالية في إطار جديد، وينقلها من كونها مجرد صراع عسكري أو سياسي إلى حرب أكثر عمقا تنحاز فيها مكونات قبلية وعشائرية كثيرة لحميدتي، الذي تعتقد أنه سيثأر لها من سلطة المركز، الذي يمثله الجيش والحكومة. بنظر هؤلاء فإن حميدتي هو من سيمنحها ما ترى أنها تستحقه من سلطة وثروة. هذا المعنى تعزز أكثر بمشاركة المتمرد المخضرم عبد العزيز الحلو زعيم أحد الجيوب المتبقية مما يسمى بـ»الحركة الشعبية لتحرير السودان».
ذلك الاسم المستفز، الذي كان المتمردون الجنوبيون يقاتلون تحت رايته حتى حصولهم على حق تقرير المصير. الحلو، الذي يقتطع جزءا من الأرض في منطقة جبال النوبة ويعتبرها أرضا محررة، والذي يجد سندا إقليميا ودوليا واضحا، متمرد مخضرم، لأنه لم يتوقف عن تحدي السلطة في الخرطوم حتى بعد سقوط البشير، بل إنه سعى لتأكيد عدم اعترافه بعبدالله حمدوك كرئيس وزراء، على الرغم من أن الأخير كان معروفا باقترابه من اليساريين، بل إن حمدوك بدا متفقا مع الحلو في مطالبه، كما ظهر في صورة شهيرة جمعتهما معا وهما يمسكان بأيدي بعضهما بعضا أمام لافتة مطالبة بالعلمانية.

المشكلة، التي تجعل التوافق مع الحلو صعبا ليس العلمانية المجردة، للتذكير نقول إن سلطة الانتقال السابقة، التي كانت تمثلها حكومة «الحرية والتغيير»، لم تكن سوى سلطة علمانية تستمد شرعيتها من منافسة منطق الإسلاميين، الذي كان سائدا في عهد البشير، بل يمكن المضي أكثر من ذلك لحد القول إن كثيرا من الإسلاميين أنفسهم لا يعترضون بالمطلق على العلمانية، بشرط المحافظة على الهوية العامة للمجتمع والدولة، وهو ما كانت تتجه إليه الأمور بالفعل، حتى في العهد السابق.
العقدة الحقيقية مع الحلو هي أنه يطالب بعلمانية متطرفة هدفها تحجيم مظاهر الثقافة العربية الإسلامية، التي لا يعتبر أن عليها أن تسود، حتى إن كانت تمثل ثقافة وعقيدة الغالبية، وهو هنا يربط ربطا عجيبا في منطقه هذا ما بين التنوع وتقبل الآخر والإقصاء. لا يجعلك الحلو بحاجة إلى البحث عن تفسير لأفكاره، فهو لا يمل من الحديث عن «الجلابة»، أي العرب مرتدي الجلابيب، الذين يعتبر أن مشكلته معهم، لأنهم يسيطرون على الدولة ويمارسون الاستعلاء الحضاري، الذي يقود إلى تهميش الآخرين.

نظرية التهميش هذه يتم استدعاؤها كثيرا في سياق التمردات السودانية، وهي تذكر بما كان خطه منظر سوف تلهم أفكاره الكثيرين وهو أبكر آدم إسماعيل، الذي نجد أن صدى كلماته يتردد بين قادة جميع الحركات، التي اختارت الخروج عن سلطة المركز. يتفق أولئك مع أطروحة الرجل، التي تقول، إن المركز متغول عليه من أبناء النيل، أصحاب الثقافة العربية، الذين يقللون من شأن كل أعجمي، ولا يظهرون احتراما لأي دين محلي.
إحدى مشكلات «مشاورات» نيروبي، هي أنها حاولت تمييع القضية السودانية الحاضرة، فلم تكن هناك مساحة لتجريم المسؤول عن تهجير ملايين السودانيين بشكل ممنهج وعن قتل الآلاف بشكل عنصري ودون أي مبرر، بل بدا الأمر وكأن المطلوب هو تحويل ملايين الضحايا في مناطق وسط وشمال السودان إلى سبب في الأزمة. أراد المجتمعون أن يخبرونا أن الضحايا الحقيقيين هم الغزاة، الذين قدموا من أقصى الأرض، ولم يجدوا حرجا في تنفيذ أعمال نهب وتخريب واغتصاب.

المصدر: د. مدى الفاتح/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى