الشرق الأوسط والحروب الشاملة!
“المدارنت”..
يختزن الشرق الأوسط كمّاً هائلاً من أسباب الصراعات وبخلفيات ممتدة، ذلك لأسباب تختلط فيها المقاربات القومية، والدينية، والعرقية، والاقتصادية، علاوة على ما يتداخل فيها من عوامل جيو/ سياسية تضفي على تلك الأسباب والخلفيات خصائص إضافية تجعلها في كثير من الأحيان أكثر إثارة لعوامل التفجير من دون ضوابط محددة، ما يعزز عدم القدرة في السيطرة وإدارة أزماتها المتصلة.
سابقاً، لم تكن المنطقة مسرحاً للحربين العالميّتين بشكل مباشر، وإن شهدت في بعض مراحلها تنافساً قوياً عليها، وهذا ما ظهر في نتائجها من تقاسم وتوزيع مغانم امتدت ذيولها لعقود طويلة، وتسببت بحروب، ومعارك، وصدامات تركت آثاراً يصعب تجاوزها، وراكمت مسببات إضافية لعوامل الانفجارات التي نعيشها اليوم.
لم تكن الحروب العربية/ “الإسرائيلية” 1948 و1956 و1967 و1973 حروباً شاملة، رغم مظاهرها الخارجية التي بدت ذات طبيعة شمولية، في بعض جوانبها، ووسائلها، والأمر ينسحب على المعارك الأخرى مع لبنان تحديداً، خلال الأعوام 1982 و1993 و1996 و2006، وجميعها انتهت بتوافقات دولية، وبعضها باتفاقات سلام.
ما يجري اليوم مختلف تماماً، إذ لم تعد أدوات الصراع ووسائله هي نفسها، فالمشاركون مختلفون، حيث دخلت أطراف غير عربية، بل هي على غير ودّ مع كثير من الدول العربية، كما أن ثمة فواعل لا تتمتع بصفة الدول، وتتموضع بتأثيرات وازنة في طبيعة الصراع، وحجمه، وأمكنته، ومساراته المحتملة.
لقد شكلت عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، من العام الماضي، تحولاً في المسارات الحربية والأمنية بين أطرافه المختلفة، واتخذت أشكالاً غير تقليدية، وصلت إلى حدود التهديد بالحرب الشاملة، فما هي حدودها؟ ووسائلها، وهل هي ممكنة، عملياً وفعلياً؟، وهل من خلالها يمكن تحقيق الأهداف والغايات المبتغاة؟
عادة ما تلجأ الدول إلى حروب ذات طبيعة محددة الأهداف لسهولة التحقق والتحقيق، وباعتبارها قابلة أيضاً للاستيعاب وإعادة ترتيب الأولويات المتصلة فيها، إضافة إلى إمكانية تحمل نتائجها في مرحلة معينة من مساراتها، وبالتالي ترتيب نتائجها المتوقعة بأقل الخسائر الممكنة، إلا أن الأمور لا تسير دائماً بالشكل الذي يمكن تصوره، ففي بعض الأحيان تخرج المواقف عن أطرها الموضوعية والمنطقية، وتتجه إلى مسارات يصعب السيطرة عليها والتأثير فيها، وهي عادة ما تنجم عن قرارات غير مدروسة جيداً وتتسم بطابع الغلو في تقييم القدرات والإمكانات المتاحة، ما تسهم هذه القراءات في اتخاذ مواقف غير صائبة، لا تتوافق مع طبيعة الأمور المتاحة واقعاً.
بعد الحدثين الأمنيّين اللذين نفذتهما “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) في كل من بيروت وطهران، في الأسابيع القليلة الماضية، وما نجم عنهما من تهديدات متبادلة بالرد، والرد المضاد، ومراكمة المواقف التصعيدية العسكرية المتبادلة، اتجهت الأمور إلى مرحلة التهديد بالحرب الشاملة، وهي حرب إذا انطلقت ستكون ذات طبيعة كبيرة، ونتائج كارثية، ليس فيها منتصر، بالنظر إلى تكاليفها الهائلة والمرعبة في جميع المجالات.
الحرب الشاملة تزج فيها جميع الإمكانات، العسكرية والاقتصادية، ذات الطبيعة الاستراتيجية، وهي لا تقف عند حدود معينة، بل تفتح كل ما هو متاح في المعركة، حتى لو كانت الأمور غير مؤدية لمصلحة الفوز في المعركة، المهم في هذه الحالة هو عدم التوقف ومتابعة سير المواجهات حتى نهاياتها.
عادة ما تلجأ الدول في حالات الحروب الشاملة إلى استعمال أي أمر متاح لديها، بما فيها الأسلحة غير التقليدية باعتبارها تقرب حالات الحسم، بخاصة إذا لم تكن هذه الميزة متاحة لدى الأطراف المنخرطة في المواجهة، وفي الحالة الراهنة هو أمر وارد وبشكل مكثف، لاسيما وأن توسيع الحرب القائمة في جزء أساسي منها منع الطرف الآخر من التوصل إلى امتلاك الأسلحة غير التقليدية.
وفي الحالة القائمة في الشرق الأوسط، ثمة أسباب كافية لتوسعة الحرب، وانتقالها إلى مستويات إقليمية عظمى، وبسهولة انتقالها لمشاركة دول عظمى فيها، ما يعطي لهذه الحرب صفة العالمية، وانتقالها من حرب إقليمية شاملة، إلى حرب عالمية، عادة ما تفرز لاحقاً معادلات لقوى جديدة غالباً ما تكون لها طموحات في نظم عالمية يتم السعي إليها، والعمل على تكريسها.
ثمة أسباب شائعة لانطلاق الحروب، ومنها الشاملة، من بينها الأمل الكاذب بالنصر، ومردّه الغلو في الثقة الزائدة، واعتبار القوة المتوفرة قوة لا يمكن مواجهتها، وبالتالي تكون قادرة على تحقيق النصر مهما بلغت قوة الخصم.
ومن بين الأسباب أيضاً، الاعتقاد بأن من لديه القدرة على امتلاك ميزة الضربة الأولى هو المنتصر، وهو ما يشار إليه حالياً في مزايا الحرب النفسية، والتغيّر في موازين القوى، حيث انخراط بعض القوى الكبرى في التحشيد القائم في المنطقة، إضافة إلى آمال السيطرة اللاحقة على الموارد، وفرض شروط الانتصار حتى ولو كان ضرباً من الخيال.
وبصرف النظر عن الوقائع الماثلة حالياً، ثمة الكثير من مظاهر التهويل، وبناء سقوف المواجهة العالية، لكن ذلك لا يعني أيضا عدم إمكانية الانزلاق في لحظة ما، نحو حافة الهاوية التي تجيد جميع الأطراف الرقص على حبالها.