مقالات

الشهيدة شيرين أو عاقلة وعيدان وأوستن.. أسماء في حضرة الببغاوات!

من اليسار: الإعلامية الشهيدة شيرين أبو عاقلة والإرهابي الصهيوني عيدان وأوستن

“المدارنت”
هناك ما يجمع بين الأسماء الثلاثة الواردة في العنوان. ثلاثتها لمواطنين أمريكيين. اثنان منهم “إسرائيل” مسؤولة مباشرة عن مصيرهما، والثالث لا يمكن فصل اسمه عن المآسي الكبرى التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، ولإسرائيل والولايات المتحدة نصيب وافر من المسؤولية فيها.

الصدفة وحدها قذفت هذه الأسماء الثلاثة إلى الواجهة تزامناً. عيدان ألكسندر بمناسبة إفراج حركة حماس عنه، وأوستن تايس بمناسبة تردد أنباء (غير مؤكدة) عن العثور على رفاته في سوريا، وشيرين أبو عاقلة بمناسبة مرور ثلاثة أعوام على قتلها عمدا برصاص جندي إسرائيلي في جنين.
عيدان ألكسندر: شاب كان في التاسعة عشرة عندما أسره مقاتلو حماس يوم 7 أكتوبر 2023. كان قد وصل إلى إسرائيل قادما من أمريكا قبل ذلك بفترة لا تزيد عن السنة. خلال دراسته الثانوية في ولاية نيوجرسي كان متفوقا في رياضتي الركض والسباحة، حتى وُصف بالنجم. قبل إسرائيل التحق ببرنامج ترعاه الكشافة الإسرائيلية ومن مهامه تجنيد الشباب اليهود في دول العالم لتأهيلهم للانضمام إلى الجيش الإسرائيلي. بعد إتمامه الدراسة الثانوية ترك عيدان كل شيء وراءه وانتسب إلى الجيش الإسرائيلي متطوعا في فرقة غولاني في غلاف غزة. منذ اختطافه ظل اسمه يتكرر بشكل مستمر جعله أحد أبرز رموز المختطفين الإسرائيليين.
أوستن تايس: عمل في الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، ثم اختار العمل الصحافي. أثناء وجوده القصير في سوريا عمل تايس مراسلا مستقلا لعدد من وسائل الإعلام الأمريكية. ثم اختفى فجأة في داريا بريف دمشق في شهر آب (أغسطس) 2012، بعد 4 أشهر من دخوله سوريا ويومين من عيد ميلاده الحادي والثلاثين. ما من شك أن أوستن، المنحدر من تكساس، مرَّ بمحنة كبرى خلال فترة احتجازه، الأكثر ألما فيها انقطاع أخباره وغياب طرف يتحمّل مسؤولية اختطافه فيمكن التوجه إليه بالترهيب أو الترغيب.
شيرين أبو عاقلة: امرأة غنية عن التعريف. اسمها دخل البيوت العربية واستقر فيها. وجهها البريء وصوتها الدافئ تسللا إلى القلوب قبل البيوت. قتلها قناص إسرائيلي في عمر عيدان ألكسندر، برصاصة واحدة في مؤخرة الرأس لا يطلقها بتلك الدقة إلا قاتل محترف مصمم على القتل. سيظل قتل شيرين جرحا نازفا وجريمة لا تُمحى من جرائم الجيش الإسرائيلي.
ما من شك أن المسؤولين في الإدارة الأمريكية، بغض النظر عمّن في البيت الأبيض، لم يتوقفوا عن إثارة اسم عيدان ألكسندر مع كل ما اعتقدوا أنه يستطيع المساعدة في الإفراج عنه. وقد تابع العالم إصرار عائلات المختطفين على رفع صوره في كل مناسبة ومظاهرة في إسرائيل وخارجها للتعبير عن التضامن مع المختطفين والمطالبة بالإفراج عنهم.
وعندما فشلت الجهود، بما في ذلك تدمير الجيش الإسرائيلي لغزة وقتل من فيها، في استعادة ألكسندر، تكفلت إدارة الرئيس ترامب بالموضوع وفتحت خطا مع حماس أفضى إلى الإفراج عنه بينما إسرائيل، بحكومتها ومؤسساتها الأمنية والسياسية، تتفرج. لقد أغضب التدخل الأمريكي إسرائيل، لكن هل كانت الإدارة الأمريكية تجهل أنها ستثير غضب إسرائيل؟ بالطبع لا، الهدف النهائي بالنسبة لها، استعادة ألكسندر، يستحق بذل الجهد وليغضب من يشاء ويفرح من يشاء.

أكثر من ألكسندر، بذلت الإدارات الأمريكية المتعاقبة جهودا حثيثة، سرا وعلنا، للوصول إلى تايس. أنا واثق أنها لم تترك حجرا في سوريا لم تقلبه. تواصلت مع نظام بشار الأسد، ومع فصائل المعارضة، وأرسلت ضباطا ومخبرين وخبراء أمنيين إلى سوريا ودول الجوار، لكن دون جدوى. كانت على استعداد للتفاوض مع الشيطان إذا كان ذلك سيرد تايس حيًّا، لكن يبدو أنها لم تعثر على الشيطان. وترددت أخبار عن العثور على رفاته في غمرة الأحداث التي رافقت هروب بشار الأسد، أوفدت واشنطن فريقا فنيا وأمنيا للتأكد، لكن حتى الآن لا يبدو أن جهودها وصلت إلى نتيجة حاسمة.
لكن على عكس ألكسندر وتايس، لم تفعل واشنطن أي شيء لتحقيق العدالة لشيرين، مواطنتها. أكثر من ذلك، خانتها إدارة الرئيس بايدن وخذلتها عندما امتنعت عن إدانة الجيش الإسرائيلي وعن المطالبة بمحاسبة الجندي الذي قتلها.
بعيدا عما انفردت به الولايات المتحدة خصوصا، والغرب عموما، من نفاق وكيل بمكيالين، هناك أمر أخطر: الشلل الأخلاقي الذي يصيب العقل الغربي عندما يتعلق الأمر بإسرائيل. شلل يحوّل سياسيين ومفكرين وإعلاميين غربيين مرموقين إلى حمقى (هذا ليس وصفي أنا، بل استعمله حرفيا المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابي). تتحدث إليهم فتسمع منهم ما يثير الإعجاب والارتياح في كل المجالات، إلا واحد: إسرائيل.
عندما يتعلق الأمر بإسرائيل يصيبهم الغباء الأخلاقي فيتسابقون مثل الببغاوات إلى ترديد سردية الحكومة الإسرائيلية ولوبياتها، ويمتنعون عن الاجتهاد وعن تشغيل أذهانهم وروحهم النقدية التي عوّدوا العالم عليها عندما يناقشون أي قضية أخرى بلا استثناء، محلية كانت أم دولية. تتابع صحفهم ووسائل إعلامهم فتحسدهم لأنها تبهرك بتفوقها شكلا ومضمونا، لكن ما أن يتعلق الأمر بإسرائيل، يصبحون أسوأ من المنظّرين لطواغيت الشرق الأوسط. والأنكى أنهم لا يشعرون بأي حرج!

كل هذا القتل والقصف والتجويع والتهجير الذي تمارسه إسرائيل في غزة على المباشر، ثم يأتي سياسي أو إعلامي أو أكاديمي غربي أحمق فيجادل بلا حياء في مفهوم حق الدفاع عن النفس، وفي تعريف الإبادة الجماعية، ويستميت في القول إن أركانها لم تتوفر (بعد).
شيرين ليست ضحية رصاصة أطلقها جندي إسرائيلي. إنها ضحية جريمة دولية، مسرحها جنين وخيوطها تمتد إلى واشنطن وعواصم غربية وعربية. لو كان قاتل شيرين جنديا من أي دولة غير إسرائيل، كانت واشنطن ستقيم الدنيا عليه وتهدد باحتلال بلاده. لو كان القاتل أمريكيا لتعاملت معه إدارة بايدن (وأيّ رئيس غيره) بشكل مختلف وجلبته للقضاء. لكن عند إسرائيل يتوقف كل شيء. لو أن قنّاصا روسياً قتل صحافية أوكرانية بمكانة شيرين وجنسيتها وفي الظروف نفسها، كانت الصحافة الدولية والحكومات الأمريكية والغربية ستقيم لها التماثيل في كل العواصم وترثيها إلى يوم القيامة.
مشكلتهم مزدوجة: لا يعرفون أن الناس ليسوا أغبياء، فيعتقدون أنهم يستطيعون الاستمرار في الكذب عليهم تضليلهم. أو يعرفون أن الناس ليسوا أغبياء ولا يمكن الكذب عليهم طول الوقت، ولكنهم يصرُّون على غيّهم لأن الأمر، ببساطة، يتعلق بإسرائيل.

توفيق رباحي/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى