العدالة الانتقالية في سوريا لا تقبل التأجيل!

“المدارنت”
يقول ياسين الحافظ: “برميل بلا قعر لا يُراكم”، وهو ما نستقي منه الكثير لنقول إنه في حالات الثورات والحروب الكبرى، وإبّان تغيّرات مهمّة تحدُث في الواقعين الاجتماعي والسياسي، فإن من أولويات عمليات إعادة البناء، والمسير في طريق التغيير نحو الأفضل، البدء بحيثيات إصلاحات كبرى وضرورية، تُبنى على أساسها ملاذات الحالة الجديدة المنبثقة من التغيير الكبير الحاصل. ولعلّ من أولويات ذلك عملية الاشتغال حثيثاً وسريعاً من أجل إعلاء وتشييد أساسات صلبة ومتينة، تقوم عليها تلك السياقات العامّة للمجتمع والدولة.
ولا يقوم ذلك أبداً إلا وفق وعي الضرورة، وبناء صرح السلم الأهلي، إذ يؤكّد فقهاء القانون والعدل الإنساني أن أسّ السلم الأهلي المراد إفساح المجال له كي يسود، سيكون بالضرورة انبثاق محددات متينة وقانونية وعادلة، لما يمكن تسميته أممياً بمسألة “العدالة الانتقالية”. ويبدو أن تأخّر إصدار وتشكيل الهيئة العليا للعدالة الانتقالية في سورية، بعد الحدث الكبير في الساحة السورية المتمثّل بإسقاط نظام الاستبداد الأسدي، في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، هو الذي يعيق اليوم مسيرة السلم الأهلي في سورية، ويفتح الباب على مصراعيه لانفلاتات أمنية قد تسهم بشكل عكسي في تهديم أسوار المجتمع، وتفتح الباب لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والمجتمع، إذ تتبدّى هذه الانتهاكات وتتمظهر بين الفينة والأخرى، في غير مكانٍ من المدن والأرياف السورية، سواء في الساحل أو الداخل السوريين، كما هو ملاحظ، بسبب تأخّر تشكيل هيئات العدالة الانتقالية، التي تحول (بشكل مباشر وغير مباشر) من دون تحقيق العدالة، للانتقال ميدانياً إلى ما يمكن تسميتها “العدالة الانتقامية”، التي كثرت تجلّياتها ومفاعيلها أخيراً، وهو ما يؤشّر إلى وجود فراغ كبير كانت قد أحدثته حالة التأخير في تشكيل بناءات قانونية لهيئة سورية للعدالة الانتقالية، وهو الأمر الذي لم يعد يقبل التأجيل مطلقاً، وليس هناك ما هو ضروري يسبقه من بناء هيئات أو مؤسّسات سورية اليوم.
المماطلة في تشكيل هيئة العدالة الانتقالية
في سورية غير مفهومة وإن تأخّرت
أكثر فسوف تعوق كثيراً إنتاج دولة المواطنة
الإسراع حالياً في إنتاج هيئة (أو هيئات) للعدالة الانتقالية بات ضرورةً مجتمعية، يتحدّث عنها معظم الشارع السوري، ويتطلّع إلى محاسبة الجاني والمجرم الذي ما زال طليقاً، قبل أن يتعثّر به أهل الضحايا، ويقيمون عليه الحدّ على طريقتهم، أي بطريقة الثأر الشعبية البدائية، التي لا ترتقي أبداً إلى مرتبة سيادة القانون، ولا تواكب حالة التغيّر الكبير الثوري الذي حصل، بل إنها تعيد إنتاج حالة التصادم والاستعداء والاصطدام والتعدّي مرّات أخرى، وهي سوف تتراكم من جديد إن لم توقف مباشرةً واقعة نزيف مزيدٍ من الضحايا، حتى لو كان معروفاً عنهم أنهم مجرمون، إذ إن ما يحدّدهم مجرمين صدور قرار قضائي بعد محاكمة عادلة يريدها الجميع.
لعلّ الاستمرار في عملية المماطلة في تشكيل هيئة العدالة الانتقالية في سورية، بعد كلّ ما جرى، بات غير مفهوم، وهو لن يبني وطناً حرّاً، كما أنه إن تأخّر أكثر، سوف يعوق كثيراً أيّ حالة لإنتاج دولة المواطنة وسيادة القانون، التي حلم بها السوريون منذ خُطف الوطن السوري من الأدوات الأمنية، والعسكرتاريا السورية، تحت حكم آل الأسد، الذين فسدوا وأفسدوا البلد ونهبوا خيراته، مع صبيحة 16 نوفمبر/ تشرين الثاني 1970.
ويبدو أن الوقت لا يزال ملحّاً لإصدار تشكيلات قانونية للعدالة الانتقالية منتقاة من أهل العدل والحقّ والوعي والعقلانية السياسية، ليتم بذلك إنجاز الخطوة الأهم في طريق بناء الوطن السوري والدولة السورية المدنية، قبل أن يفوت الوقت، ويجري العبث بالسلم الأهلي ممّن له المصلحة كلّها في بعثرة (وتشتيت) الواقع السوري الجديد وتخريب السلم الأهلي. وإذا كانت هناك خطوات مهمّة قد جرت في سورية، على كثير من الأصعدة، نحو إقامة الدولة الوطنية السورية، فإن هناك الكثير الكثير من المتطلّبات والضرورات التي لا يزال مطلوباً تحقيقها، وما تزال سوريا في مرحلة البناء التي تحتاج مزيداً من الوعي والإدراك، وتخطّي المعوقات، التي ما انفكّت تعتبر تحدّيات كبرى ومهمّة وصعبة المراس، ليس آخرها موضوع العدالة الانتقالية، كما ليس أوّلها تعدّيات إسرائيل على مجمل الجغرافية السورية، ثمّ العزف على الوتر الطائفي ومسألة الأقليات، التي تدّعي إسرائيل أنها حامية لها، فهناك تحديات وطنية سورية كثيرة، وهناك ما يتراكم من مسارات للعديد من المتطلبات الداخلية والخارجية، وصولاً إلى حالة الوقوف على ذؤابة الفعل الوطني الممكن، وتهيئة الظروف الواقعية والحقيقة لإقامة الدولة السورية الوطنية الديمقراطية، المندمجة في الواقع العربي المحيط، وألا تبقى في حالة تنافر معه بأيّ شكل من الأشكال.
تأخر تشكيل هيئة للعدالة الانتقالية في سوريأ
هو ما يعيق مسيرة السلم الأهلي
ويفتح الباب لانفلاتات أمنية
باتت صيغة العدالة الانتقالية ضروريةً ومطلوبةً بحقّ، وبسرعة، وهي وحدها (فيما لو أنجزت) يمكن أن تضع القضايا كلّها في مساراتها الوطنية الصحية، وتنتج واقعياً محدّدات العدالة الانتقالية المطلوبة والمعروفة أممياً، ومنها ما هو أهم، أيّ عبر جبر الضرر، وتحقيق العدل وإعادة الحقوق إلى أصحابها الذين وقع عليهم الظلم والحيف، وسيكون ذلك بالقانون، وليس بأساليب البلطجة، أو التعدّيات بقوة السلاح وقوة امتلاك السلطة، وهي وحدها التي سوف تهدئ النفوس وتنتج حالات المسامحة المطلوبة، بعد وصول الحقّ إلى أصحابه، ولولا ذلك، وعلى غير هذين الهدي والمسار، لا يمكن أن نخرج (نحن السوريين) في هذه اللحظة الزمنية الصعبة من عنق الزجاجة، ولا يمكن أن تشيّد بناءات الوطن الديمقراطي المبتغى، الذي ضحّى السوريون في طريقهم إليه، بما ينوف على مليون شهيد، على مذبح الحرية، وأكثر من 900 ألف معتقل، وأزيد من مليون ونصف المليون معوّق حرب، سقطوا بيد الجلّاد المستبدّ.