العدالة الجنائية والتحدّي “الإسرائيلي”!
مطلوبان للعدالة الدولية“المدارنت”..
لم تسمح ظروف الحرب الباردة بهواجسها العسكرية والاقتصادية والنفسية بالتفات المجتمع الدولي إلى عدد من الإشكالات والمخاطر العابرة للحدود، كتلوث البيئة والإرهاب والانتهاكات الجسيمة التي تطول حقوق الإنسان وحرياته في عدد من مناطق العالم.
وفي أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي وعلى إثر سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة وبروز نزاعات إقليمية وداخلية، ارتكبت خلالها الكثير من الجرائم والانتهاكات الخطيرة، بدأت قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان تفرض نفسها بقوة ضمن الخطابات الدولية، فيما تزايدت حدة الانتقادات الموجهة إلى الدول والمؤسسات العالمية التي بدت عاجزة أمام الجرائم الخطيرة التي كانت تنقلها وسائل الإعلام عبر العالم، ما أفرز استياءً كبيراً في أوساط الرأي العام العالمي.
وفي هذه الأجواء تكوّنت قناعة قوية بضرورة ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، كسبيل لوقف الجرائم والانتهاكات الجسيمة التي أضحت أكثر خطورة مع تطور الأسلحة وتعقد الأزمات والنزاعات الإقليمية والداخلية، مثلما وقع في البوسنة والهرسك وفي الصومال ورواندا وسيراليون وجنوب السودان..
كما أصبح تعزيز مسار العدالة الجنائية الدولية يفرض نفسه بقوة بالنظر إلى الإشكالات القانونية والسياسية التي اعترت بعض المبادرات الواردة في هذا الصدد، سواء فيما يتعلق بتكريس عدالة الأقوى التي برزت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مع انطلاق محاكمة بعض القيادات من النازية والفاشية عن الجرائم التي ارتكبوها في حق الإنسانية، في مقابل إهمال جرائم أخرى لا تخلو من خطورة ومن ضمنها استخدام القوات الأمريكية للسلاح النووي في كل من «ناكازاكي» و«هيروشيما» باليابان.
أو فيما يتّصل بتكريس عدالة انتقائية بعد إحداث محكمتين جنائيّتين مؤقتتين، الأولى، لمحاكمة مجرمي الحرب في البوسنة والهرسك، والثانية، لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا، بموجب قرارات صادرة عن مجلس الأمن الذي لم يتحمل مسؤولياته بموجب المادة ال 39 من ميثاق الأمم المتحدة في مواجهة جرائم خطيرة أخرى ظلت ترتكب في عدد من المناطق كالأراضي الفلسطينية المحتلة والعراق والشيشان..
رغم الآمال التي رافقت إحداث المحكمة الجنائية الدولية في عام 2002، إلا أن الأمر لم يخل من صعوبات وإشكالات، بفعل إصرار عدد من الدول الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا على عدم الانضمام إلى نظام المحكمة التي تختص بالنظر في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، والعدوان، بل وصل الأمر إلى حد التهديد بفرض عقوبات على قضاة المحكمة في حال البدء في تحقيقات بصدد الجرائم العسكرية المفترضة التي ارتكبتها القوات الأمريكية داخل الأراضي الأفغانية على امتداد عقدين، متذرعة في ذلك بحماية أمنها ومصالحها وسيادتها.
ومع توالي الاعتداءات “الإسرائيلية” (الإرهابية الصهيونية) على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة وما تمخض عنها من ارتكاب جرائم خطيرة، تجدد طرح الأسئلة حول مدى قدرة المحكمة الجنائية الدولية على ترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وبخاصة مع تصاعد حدة الرفض الدولي للعمليات الوحشية التي تباشرها قوات الاحتلال في مواجهة شعب أعزل وتجبره على مغادرة دياره وأراضيه.
لقد سبق للمحكمة أن فتحت تحقيقاً بصدد الجرائم المحتملة التي ارتكبتها القوات “الإسرائيلية” في قطاع غزة منذ عام 2021، إلا أن ذلك ظل مجرد حبر على ورق، بسبب التعنت “الإسرائيلي”، وأمام العمليات العدوانية الحالية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، أعلن المدعي العام للمحكمة عن توسيع دائرة التحقيقات التي تستهدف قادة من “إسرائيل” (كيان الإرهاب الصهيوني في فلسطين المحتلة) و«حماس». وهو ما واجهته “إسرائيل” بالرفض، بل ذهبت إلى حد التهديد بتقويض مهام السلطة الفلسطينية في حال تحريك المتابعة في حق قادتها العسكريين أو السياسيين، مسنودة في ذلك بدعم قوي من واشنطن التي ترفض أي تحرك للمحكمة يستهدف «سيادة الدول».
وأمام تصاعد حدّة الغضب الدولي، مع انتشار المظاهرات في كثير من المدن عبر العالم، وانطلاق شرارة الاحتجاجات الطلابية في عدد من الجامعات داخل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا وألمانيا وفرنسا، كتعبير عن الإدانة والرفض لما ترتكبه “إسرائيل” من جرائم، تصطدم بإصرار هذه الأخيرة على الاستمرار في ارتكاب مجازرها من جهة، وبجمود وصمت المؤسسات الدولية المعنية بتسوية المنازعات وتدبير الأزمات الدولية من جهة أخرى.
وأمام هذه السلوكات التي تعكس تحدياً للقانون وللمجتمع الدولي، يثار السؤال بقوة حول ما إذا كانت المحكمة التي تضم أكثر من مئة وعشرين دولة عضو، والتي تباشر تحقيقات بصدد جرائم خطيرة في عدد من البلدان الإفريقية.. ستصدر أوامر باعتقال قادة سياسيين وعسكريين “إسرائيليين” (إرهابيّين صهاينة) متهمين بارتكاب جرائم إبادة في حق الشعب الفلسطيني رغم كل الصعوبات والتحديات، أم أنها ستكرّس هشاشة العدالة الجنائية الدولية مرة أخرى؟
لا شك أن تحريك مسطرة المتابعة في حق المتهمين بارتكاب جرائم تندرج ضمن اختصاصات المحكمة بغض النظر عن جنسياتهم، سيمثل دفعة قوية لمسار العدالة الجنائية الدولية باتجاه تحقيق رهان عدم الإفلات من العقاب، أما التساهل مع هذه الممارسات وتركها تمرّ دون تحديد المسؤوليات، من شأنه أن يراكم سوابق تشجع على الاستمرار في انتهاك القانون الدولي، ويتيح لقوى دولية أخرى اللجوء إلى القوة كآلية لتحقيق المصالح ولحسم الخلافات والأزمات.