مقالات

العراق.. الحاكمية “الشيعية” وفقه الهزيمة “السنية”!

المدارنت”
تحدثنا مرارا عن أزمة التمثيل السني في العراق، وعن عجز الفاعلين السياسيين السنة في سلطات الدولة ومؤسساتها، عن تمثيل مصالح جمهورهم والدفاع عنها، وذلك نتيجة للتحول الجذري الذي حصل في الآليات التي تنتج هؤلاء الفاعلين من جهة، وفي الطبيعة الشخصية لهم من جهة ثانية؛ فبين عامي 2010 و2014، نجح رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي في اعتماد سياسة منهجية لضمان ولاء بعض الفاعلين السياسيين الطارئين (الذين نجحوا في انتخابات عام 2010 ضمن القائمة العراقية) عبر استخدام الأدوات التي وفرتها له السلطة شبه المطلقة التي يمتلكها رئيس مجلس الوزراء في سياق النظام السياسي الهجين في العراق، وعلى رأسها استخدام المال العام لغايات سياسية وشخصية من دون رقابة (فيما أسميناه سياسة التدجين مقابل الفساد) وعبر دفع أعضاء القائمة العراقية إلى الانشقاق عنها لإضعافها.
وقد أثبتت هذه السياسة في أيار 2012 نجاحها الكبير حين عجزت القائمة العراقية التي فازت بـ 92 مقعدا في تلك الانتخابات، من جمع تواقيع عدد من نوابها السنة لتأمين شرط الرئيس جلال الطالباني حينها بجمع تواقيع 164 نائبا (أي الأغلبية المطلقة لعدد أعضاء مجلس النواب) لتقديم طلب سحب الثقة من المالكي إلى البرلمان، وبهذا استطاع المالكي إفشال سحب الثقة عن حكومته بتواطؤ من النواب السنة!

وقد دفع هذا المالكي إلى محاولة صناعة فاعلين سياسيين سنة بنفسه هذه المرة، لأجل ذلك عمد إلى عقد صفقات مع الكثيرين، بينهم شخصيات كانت خارج العراق، ووفر لهم الحصانة والمال والحماية للعودة لمزاحمة النواب الذين يصعب تدجينهم من الفاعلين السياسيين السنة لغرض إزاحتهم من المشهد. وقد نجحت سياسة المالكي بشكل كبير، من خلال فوز من أسميناهم حينها «سنة المالكي» بمقاعد كثيرة في انتخابات مجالس المحافظات عام 2012، رغم أن الجغرافيا السنية كانت تشهد حينها احتجاجات كبيرة واعتصامات واسعة اعتراضا على سياسيات المالكي التمييزية والطائفية، وهو ما عكس التناقض بين المجتمع السني حينها، وبين مخرجات العملية الانتخابية المسيطر سياسيا لانتاج ممثلين مزيفين!
في انتخابات مجلس النواب في العام 2014، أعاد المالكي تجربة استقطاب مرشحين سنة من الانتهازيين وعقد معهم صفقات قبل الانتخابات، ودعمهم عبر أدوات السلطة (التوظيف والخدمات والسيطرة على المراكز الانتخابية) من جهة، والمال السياسي المتأتي من الاستثمار في المال العام والذي يتيح صناعة جمهور زبائني من جهة ثانية، ثم التضييق على المرشحين من السياسيين السنة (غير المدجنين وهم قلة) من خلال استخدام القضاء لملاحقتهم، والتطبيق الانتقائي لقانون الاجتثاث، وتكريس التسييس في إجراءات مفوضية الانتخابات، وتجيير قرارات الهيئة التمييزية الخاصة بالانتخابات لصالحه، ومنع وصول ناخبيهم إلى مراكز الاقتراع بالقوة، وممارسة التزوير المؤسسي والمنهجي.
وبالفعل نجح المالكي في دفع هؤلاء الى الانشقاق عن كياناتهم السياسية التي فازوا من خلالها، وشكلوا تحالفا سياسيا جديدا بعيد الانتخابات مباشرة (تحالف القوى الوطنية العراقية وهو الكيان الذي حصل على منصب رئاسة مجلس النواب بفضل دعم الفاعل السياسي الشيعي بترشيح شخصية كانت عليها سبعة قضايا ارهاب كيدية ساهمت في تدجينه تم رفعها بجرة قلم من القضاء) دعم بالنهاية لفكرة الولاية الثالية للمالكي التي كانت قاب قوسين أو أدنى من التحقق لولا تدخل المرجع الأعلى السيد علي السيستاني لوأدها!
وكانت سنة 2014 لحظة مفصلية تماما في سياق أزمة التمثيل السني؛ فقد انتهت مساعي الفاعلين السياسيين الذين هيمنوا على التمثيل السني بين عامي 2003 و 2014 لإنتاج هوية سياسية سنية في سياق عام من تكريس الهويات الفرعية لتحويلها لهويات سياسية والتي بدأت كرديا وشيعيا قبل 2003، وتحولت إلى واقع على الأرض بعد 2003. وهذا الوضع حول الممثلين السنة إلى مجرد مشاركين لا قرار سياسي حقيقي لهم، الأمر الذي جعلهم يفشلون في منع الفاعلين السياسيين الشيعة من تحويل الميليشيات العقائدية/ فرق الموت (التي مارست القتل المنهجي طوال السنوات الماضية) إلى قوة أمر واقع في حزيران 2014 مع ظهور داعش، وفشلوا بالتالي في منعهم من شرعنتها نهاية العام 2016. وفشلوا في المضي بتنفيذ فكرة الحرس الوطني التي طرحها الأمريكيون والتي كانت تنص على استخدام عناصر محلية من المحافظات السنية لمواجهة داعش وهزيمته بدلا من تنظيمات عقائدية متطرفة.
بعد هزيمة داعش، والتي كان للتحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة دور جوهري فيها، تكرست فكرة الهزيمة السنية في مواجهة انتصار الحاكمية الشيعية، وتقبل الفاعلون السياسيون السنة هذا الأمر على أنه حقيقة نهائية، بل عمد بعض من قيادات الحزب الإسلامي الى التنظير لفقه جديد تحت مسمى «فقه الهزيمة»، وأن مهمة الفاعلين السياسيين السنة تنحصر في محاولة تحسين شروط هذه الهزيمة، والتقليل من وطأتها. وأصبح الممثلون السنة في سلطات الدولة ومؤسساتها كلها مقتنعين تماما بدور «التابع»، بل عمد كل واحد منهم إلى «اختيار» عراب له أو وصي عليه من الفاعلين السياسيين الشيعة، يوفر له الحصانة السياسية والقضائية من أي ملاحقة، ويدعم استثماراته في المال العام، ولم يعد هناك دور سياسي حقيقي للفاعل السياسي السني خارج سياق تجميع ثروته الشخصية وبناء جمهوره الزبائني الخاص!
اليوم ونحن على أعتاب الانتخابات البرلمانية، لم يعد بالإمكان الحديث عن قوى سياسية سنية حقيقة، أو فاعلين سنة حقيقيين، أو برامج أو أهداف سياسية، فلكل دكان سياسي سني، أو سمسار سياسي سني، عراب من الطبقة السياسية الشيعية يملي عليه، وأصبح بالإمكان نسبة كل واحد من هؤلاء إلى عرابه، مثل الحديث عن سنة السوداني أو سنة الفياض أو سنة المالكي أو سنة الخزعلي أو سنة كتائب حزب الله وهكذا، دون أن يثير ذلك أي إزعاج لهم، بل على العكس أصبح ذلك مدعاة للتفاخر، وأصبحت القلة النادرة التي لا تزال تجرؤ على الرفض والاحتجاج، موضع استهداف سياسي من الفاعلين السياسيين السنة قبل سلطات ومؤسسات الدولة الطائفية!
تكمن الكارثة الحقيقية في قبول الجمهور الزبائني الذي ينتخب هؤلاء، لمجرد أنهم يتيحون له مزيدا من المكاسب المادية والرمزية، وتكمن في السلبية المطلقة للغالبية العظمى من المجتمع السني التي تسمح، بعزوفها عن الانتخابات، وقبولها بالأمر الواقع وبتبنيها لمقولة «المشي بجانب الحائط»، لهذه الدكاكين، وهؤلاء السماسرة، بالبقاء والتمدد!

يحيى الكبيسي/ “القدس العربي”
المزيد

المدارنت / almadarnet.com

موقع إعلامي إلكتروني مستقل / مدير التحرير محمد حمّود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى