اللاجئ السوري.. “سبع طبايع وصنايع والبخت ضايع”!
“المدارنت”..
سألني صديق، يتسم بالحماس والشجاعة والدأب والمثابرة، فيما أعرفه عنه، أنه كثيراً ما يصفه أشخاص، لا يودّونه أو يغارون منه، أو يحقدون عليه، أو لا يحبون نمطه، بأنه شخص مندفع، أو متسرّع، أو متحمّس أكثر من اللازم، أو بالعدوانية أو حمال قضايا شأن عام!
وقد قادنا الحديث إلى فكرة هل من صفات دائمة للشخصية أم أنها متحولة، وهل يمكن تعميميها على مجموعة بشرية ما أم أن مثل هذا التعميم فيه شيء من الظلم.
اتفقنا بداية على أن الشخصيات أنماط، وفقاً للدراسات النفسية والاجتماعية، وكذلك المعاينة الشخصية، هناك شخصية: باردة ومتحمسة وكسولة ومثابرة وهادئة ومتسرعة واستراتيجية ويومية وإيجابية وسلبية، وشخصية مركزة على عملها، وشخصية منشغلة بالآخرين، وشخصية تهتم بالشأن العام وشخصية منشغفة بشؤونها الشخصية، ونمط مضطرب ونمط متوازن..
وأن كل شخصية ممن نقابل، أو نحن أنفسنا، فينا من الصفات المتناقضة ما فينا وأن النمط ليس قدراً نهائياً وطبعاً لا يقبل التغيير، بل إن الاجتهاد على الذات والوعي بها يمكن أن يغير الكثير فينا. وأن صفات كل شخصية ليست نهائية بل تتسم بالتغير والتحول وفقاً للموقع والعمر والجنس والجغرافيا وسوى ذلك من عناصر أخرى تجعل تنميط شخصية ما أمراً فيه من الصعوبة والجور ما فيه.
التنميط هو جزء من الرغبة بقراءة الآخر، ومحاولة فهمه وبالتالي سهولة التعامل معه، لكن التنميط فيه من الظلم ما فيه، لأن الشخصية عالم من التحولات والتغيرات، هذا إن نظرنا إلى كل شخصية بمنظار منفرد، فما بالك إن حاولنا تنميط شعب كامل بهذه الصفة أو تلك!
والتنميط تنميطان:
تنميط إيجابي لأجل الفهم والرغبة بالتواصل مع الآخر.
تنميط سلبي بهدف الإساءة أو التجريح المبطن.
سألت سيدة هولندية تعمل بشؤون اللجوء منذ أكثر من ثلاثين عاماً، عما يمكن أن تصف به الشخصية السورية بعد أكثر من أربعة عشر عاماً من تعاملها اليومي معهم، وتعاملها مع جنسيات أخرى كذلك، فقالت بعد إصرار مني على سماع رأيها واعتذارها مني، أنها ستكون صريحة، طالبة مني أن أوقفها عن الحديث متى ما رأيتُ أن الحديث صار مزعجاً لي:
سأصف الشخصية السورية تبعاً لتعاملي معها ومراقبتي لها من خلال ملفات يومية حياتية، ووفقاً لمقابلتي أكثر من أربعمئة عائلة سورية، كنت مسؤولة عن ملفاتهم ومتابعة أمورهم في البلدية من سكن وتبعاته، ودراسة، وحصول على فرصة عمل وتسجيلهم عند طبيب العائلة ومتابعة شؤونهم اليومية.. لا أقول ذلك لأنمّط السوريين، هي تجربة بشرية في التوصيف تتسم بالخبرة والمعرفة بجنسيات أخرى، وما سأقوله فيها من الخطأ والصواب ما فيه:
في البحث عن سكن ملائم تبحث الشخصية السورية عن بيت كبير فيه غرف نوم كافية، ولا مانع إن كان هناك غرفة للضيوف، قد تبالغ الشخصية السورية في توصيف حالتها (لم تقل تكذب) أو تجعل من نفسها ضحية، إن كان الثمن الحصول على بيت واسع، بل قد تجعل الأطفال يشاركون في الشكوى للحصول على ذلك البيت، لديهم رغبة بتعويض ما فاتهم، ولديهم خبرات في شؤون البيوت أكثر من الموظفين أنفسهم. من كان لديه بيت واسع في سوريا يريد التعويض. ومن لم يكن لديه مثل ذلك البيت، يريد أن يغتنم الفرصة ليتساوى مع ذلك الذي كان لديه بيت واسع، لا أحد يقتنع بالبيت الذي يحصل عليه، الجميع عينه على بيت جاره الأفضل منه، يريد السوري حديقة ومكاناً للشوي وغرفة نوم لكل طفل، تتأمل في حالته كأنه لم يأت من بلد فيه حرب، وغالباً ما يقول لنا:
فلان الذي كان معه في المخيم بيته أفضل من البيت الذي سأحصل عليه، من الصعب أن تحصل على رضاه في أي بيت مرّ معي، كل العوائل الأربعمئة وجدت عيباً ما في البيت الذي أتيح لها، حتى أن أحدهم حين لم يجد ملاحظة على بيته، قال: ألوان أبواب بيوت الحارة ليست جميلة!
في الدراسة، الشخصية السورية شخصية مذهلة في حرصها على أن تتعلم ورغبتها في دفع أولادها إلى الأمام من أجل أن يحصلوا على فرص كبيرة، كثير من الآباء والأمهات يبحثون عن حجج كي لا يذهبوا هم إلى المدرسة، لم يمر معي جنسية كالسوريين يحرصون على أن يكون أبناؤهم من الأوائل، تشغلهم المقارنات مع الآخر، كثيرون يريدون أن يصبح أبناؤهم أطباء، لا يلتفتون إلى الإمكانات الشخصية لأطفالهم، أو نتائجهم، عندهم قناعة أن كل شيء ممكن وأن الطفل يمكن أن يصنع المستحيل إن وجد “عين حمرة”، لديهم تقدير عال لما يبذله أطفالهم، يريدون أن يكيفوا أنماط الدراسة في هولندا، وفقاً لأنماط الدراسة في سوريا، عندهم اعتداد كبير بما حصلوا عليه من شهادات من بلدهم الأم، معظم السوريين لديهم شهادات دراسية، أقلها البكالوريا، ويعتقد كثير منهم أنه ليس من الضروري أن يعدلوا شهاداتهم، وإن عدلوها فهم لا يرضون أن يتم تحميلهم مواد دراسية بل يريدون أن يعدلوا شهاداتهم تماماً بنفس القيمة التي حصلوا عليها. لدى السوريين ما يشبه العقدة النفسية، هي: “ابني يجب أن يكون الأول على مدرسته أو صفه”.
في العمل لا يقدر معظم السوريين المهن اليدوية، يحبون العمل الإداري أو العمل في المهن ذات الدخل الأعلى، كالطب والهندسة والحقوق. المهنة لدى السوريين حكم قيمة، وقد يكون تقدير الشخص ليس جانبه الإنساني كإنسان أولاً، بل مهنته. أكثر جنسية غير مستقرة في العمل، تجد أن كل شخص عمل في عدة مهن وصارت حالته “سبع صنايع والبخت ضايع”، لا يؤمن السوريون بفكرة أحبب ما يتاح لك من مهن حتى تجد ما تحب، بل أبغض ما أنت تعمل فيه حتى تجد ما أنت تحلم به.
كبار السن يبكون على ماضيهم وأمجادهم التي أكلتها الحرب، وشبابهم يريدون أن يحلموا بمهن بعيداً عن إرادات الآباء التي يتصارعون معها، ويريد أن يحقق الآباء أحلامهم المهدورة في أبنائهم. الكثير من السوريين أهل “بزنس” التجارة تمشي في دم كثيرين منهم، يحبون حكاية “الاستيراد والتصدير” لا أعرف ما قصتهم مع هذه الفكرة، هل لأنهم حرموا فترة طويلة من الاستيراد والتصدير، أم لأن الفكرة تعني أن الشخص تجاوز المحلية نحو العالمية لا أعرف!
كل الطب الموجود في هولندا، لا يرضي السوريين، غاضبون دائماً من الأطباء، يهمهم أن يلتهموا أكبر كمية من الدواء في بلد جوهر الطبّ فيه المناعة الشخصية، يعتقد السوريون أن جسم الإنسان لديه الكثير من العذابات، فالأفضل أن لا يتألم من جهة الأمراض، لذلك فإن الدواء هو الحلّ الأمثل، يكرهون كلمة “الباراسيتامول” التي يصفها الأطباء الهولنديون لكل مرض أول الأمر.
لا يحب السوريون التدرج في العلاج، يهوون حرق المراحل في الطبّ والحياة، هم أطباء أكثر من الأطباء، يستعملون كثيراً كلمة “حمار” في توصيف الأطباء، كل سوري طبيب حتى يثبت العكس، يفهمون في أنواع الدواء أكثر من الصيادلة، ولا مانع لديهم أن يشتروا الدواء “بالأسود” ويصفونه لأنفسهم، فالطبيب لا يفهم أكثر منهم!
لدى السوريين علاقة خاصة بالزمان، فأفضل زمان هو الماضي، وأكثر زمان لتحقيق الأحلام هو المستقبل، لذلك تفلت من أيديهم اللحظة الحاضرة، وتذهب متعتها، في هولندا التي تولي اللحظة الحاضرة قيمة كبرى وتجعلها لحظة متعة مقرونة بالعمل والدراسة، فالهولنديون من الشعوب التي تشبع اللحظة الحاضرة كونها تتمتع بحرية كبيرة في الإشباع بكل مفاهيمه، ولا يذهب العمر حسرات.
تجارب الماضي لدى السوريين هي الأفضل، وبلدهم الأم “الماضي” أجمل بلد في العالم، و”الشاورما” في بلدهم أطيب “شاورما” في العالم، يحب السوريون صيغ التفضيل ليقولوا: إن أفضل الأزمنة والأمكنة والأشخاص والمعتقدات والظروف والقناعات هي “الأصيلة” القادمة من الماضي!
التجارب السابقة هي الأجمل، والظروف السابقة هي الأجمل. شيء واحد لدى السوريين من الزمن الحاضر هو الأفضل: الحب الحالي والزوجة الحالية، لأن الحب السابق والزوجة السابقة والزوج السابق هم خراب العالم!
الحاضر لدى السوريين لحظة عبور وليس لحظة إقامة نحو زمن قادم لا يمشي إليه السوريون مشياً، بل يركضون ركضاً، متلهفين ليصبح زمناً ماضياً يحنون إليه، وقد نسوا أو تناسوا أنه حين كان مستقبلاً لم يخططوا له بما ينبغي، وإلا ما آلت أحوالهم إلى ما آلت إليه، وحين كانت هذه اللحظة لحظة من الزمن الحاضر لم يولوها الأهمية التي تستحقها ليعيشوها أو يستمتعوا بها بما يكفي، بل عملوا بأقصى ما يستطيعون على أن تصبح لحظة من الماضي كي يبدأوا في رحلة الحنين والبكاء والتحسر على ما مضى، سواء علموا أم لم يعلموا أن ما مضى قد مضى، ولا يمكن أن تملأ لحظتك الحاضرة بما مضى، كي لا يصبح اسمك وكنيتك: “ما مضى”!